تجربة العلمانية في تركيا – جنى مشورب (تواصل مدني العدد 26)

0

يعتبر فصل الدين عن الدولة في الغرب النتيجة الأساسية للحداثة، فعديدٌ من الدول وتحديداً الأوروبية تعتمد على مبدأ العلمانية كنظام سياسي بعد أن مرت بمرحلة طويلة امتدت لقرون من الصراعات الدينية، في حين يعتبر فصل الدين عن الدولة في تركيا القوة المحركة للحداثة، فالحداثة تمخضت عن إضفاء الطابع العلماني على سياسات الحكومة.

تأسست الجمهورية التركية الحديثة في عشرينات القرن الماضي على أنقاض امبراطورية عثمانية متعددة الأذرع وصلت حدودها للقارات الثلاث وحكمت باسم الإسلام لمدة أربعماية سنة على شعوب وحضارات وأديان مختلفة وانتهت باستسلام السلطنة على أثر هزيمتها في الحرب العالمية الأولى.

مع نشوء الجمهورية التركية الحديثة، أصبحت  العلمانية ركناً أساسياً من أركان الجمهورية، لكن العلمانية لم تظهر مع الجمهورية بل سبقتها بسنوات طويلة منذ السلطنة العثمانية.

امتدت أفكار الثورة الفرنسية التنويرية إلى باقي الدول الأوروبية ثم وصلت إلى السلطنة العثمانية وتحديداً في القرن الثامن عشر بواسطة طلاب أتراك كانوا يدرسون في الجامعات الأوروبية وتحديداً الفرنسية، فحملوا معهم إلى جانب شهاداتهم الجامعية أفكاراً تقدمية كانت السلطنة العثمانية تجهلها حتى عودتهم إلى بلادهم.

خلال القرن الثامن عشر، ومع وصول السلطان محمود الثاني إلى سدة العرش العثماني قام بإنشاء جيش جديد يشبه الجيوش الأوروبية، ووضع قوانيناً حديثة على الطراز الأوروبي، لكنه ما لبث أن تعرض لهجوم عنيف من الشعب الذي أطلق عليه لقب “السلطان الكافر”.

خلال القرن التاسع عشر، ظهرت حقبة إصلاحية من تاريخ تركيا سُميت بـ “التنظيمات”، امتدت من العام 1839 إلى العام 1876، لقيت العلمانية خلالها رواجاً كبيراً في أوساط المثقفين وتحديداً الذين تلقوا تعليمهم في الجامعات الأوروبية. وقد قام هؤلاء الشباب بإنشاء جمعية أطلقوا عليها اسم “الشباب العثماني”، ثم أعدوا دستوراً جديداً يحمل أفكاراً ثورية.

أسست هذه الجمعية لأرضية أساسية وقواعد مهمة أرسى عليها مصطفى كمال جمهوريته الحديثة.

بالرغم من الإصلاحات الكبيرة في المؤسسة العسكرية العثمانية، إلا أن الجيش العثماني تكبّد هزيمة كبرى في تلك الفترة بسبب ظهور القوميات التي بدأت تطالب بالاستقلال عن السلطنة وتحديداً في منطقة البلقان، وبسبب الثورة العربية الكبرى التي قادها الشريف حسين مدعوماً من بريطانيا، بالإضافة إلى وقوف السلطنة إلى جانب دول المحور التي بدورها تكبدت هزيمة كبرى، فوقّعت السلطنة على اتفاقية “سيفر” التي ألزمت السلطنة بالتخلي عن الأراضي العثمانية التي يقطنها ناطقين بلغات أخرى، كما تم احتلال أراضٍ عثمانية ناطقة باللغة التركية مما أدى إلى تحريك الشعور القومي التركي وتحديداً من قبل أحد الضباط الكبار في الجيش العثماني مصطفى كمال، فقام بثورة وطنية مدعوماً من كبار ضباط الجيش العثماني وسياسيين مؤمنين بالقومية التركية والشعب، انتصر فيها مصطفى كمال وأجبر الحلفاء على العودة إلى طاولة المفاوضات حيث وقّع معهم إتفاقية “لوزان” التي حلت محل إتفاقية “سيفر”، وبعدها بدأ مصطفى كمال إصلاحات داخلية فألغى الدستور العثماني في الأول من تشرين الثاني 1922 ووضع مكانه دستوراً حديثاً يتناسب مع الأفكار التي حملها مصطفى كمال، ثم عدل الدستور سنة 1937 وأضيفت كلمة علمانية التي ما تزال موجودة في الدستور الحالي في المادة الثانية، وأسس الجمهورية التركية في 29 تشرين الأول من العام 1923.

يعتبر مصطفى كمال، الملقب بـ “أتاتورك (أي أب الأتراك)”، بأنه باني الأمة التركية، ومُنشئ الدولة التي قامت على مبدأين أساسيين هما العلمانية والقومية التركية. وقد عرفت هذه السياسات بـ “الكمالية” نسبة إلى مصطفى كمال، كما أنه وضع تركيا على خارطة الدول الأكثر حداثة وتطوراً.

مرت العلمانية في تركيا منذ تأسيس الجمهورية التركية بحقبتين مُهمتين:

الأولى، وهي الأطول، وقد عُرِفَت بحقبة العلمانية المُتشددة، وامتدت منذ العام 1924 وحتى العام 2003، اعتمدها أتاتورك كنهج، ثم من خلفه من رؤساء حتى الوصول إلى عهد أردوغان. وقد كان أتاتورك مُتشدداً، في هذه المرحلة، في تطبيق العلمانية التي كانت له رؤيته الخاصة بها، فألغى دين الدولة من الدستور مُتخذاً دستوراً مدنياً مُعاصراً شبيهاً بدساتير الغرب، كما ألغى الخلافة الإسلامية، وطرَد العائلة العثمانية من البلاد وصادر أموال السلطان ومنع التدريس باللغة العربية التي هي لغة الإسلام، ومنع الحجاب، وألغى وزارة الأوقاف. ولا شك أنّ أتاتورك تجاوز خلال هذه المرحلة أسس ومُرتكزات العلمانية المطبقة في دول غرب أوروبا، إذ أنه أراد نقل الشعب التركي إلى مصاف الشعوب الغربية، سواءً على المستوى الثقافي والإجتماعي والعلمي، ما أدى إلى تغير جذري في واقع المجتمع التركي.

الحقبة الثانية، عُرفت بحقبة العلمانية المحايدة، وامتدت منذ العام 2003 حتى الآن، وبدأت مع وصول زعيم التيار الإسلامي رجب طيب أردوغان إلى موقع السلطة، وهو الرجل الذي اعتبر أنّ الدين هو إحدى الحريات التي على الإنسان أن يتمتع بها، كما اعتبر أنه يجب ترك حرية اختيار الدين للناس مُتبنياً العلمانية الموجودة في الدول الأوروربية، وقام بالسماح بارتداء الحجاب وبناء المساجد. وتجدر الإشارة إلى أن أردوغان، ورغم تذكيره الدائم بأتاتورك في خطاباته مُشيداً بدوره في بناء الجمهورية الحديثة، إلا أنه في الواقع سعى إلى التخفيف من وطأة “العلمانية الأتاتوركية” التي تقف عائقاً في وجه توجهاته الدينية المحافظة، ويتضح ذلك من خلال خطاباته ورسائله إلى جماهير حزبه حيث صرّح مراراً بأنه يرغب بتشكيل جيل مُتدين في البلاد يؤمن بالثقافة العثمانية ويتغلب على الأفكار الغربية. ومن سياساته في هذا الإتجاه تقوية مدارس الإمام الخطيب وهي مدارس إسلامية استفادت في السنوات الأخيرة من دعم حكومي واسع.

يعتبر الجيش التركي الحامي الأساسي للعلمانية في تركيا، حيث ظلّ الجيش وفياً لتعاليم ونهج قائده أتاتورك. وخلال خمسين سنة قام الجيش بعدة انقلابات عسكرية دفاعاً عن علمانية تركيا وأطاح بأربع حكومات وظل مهيمناً على المشهد السياسي في تركيا حتى وصول حزب العدالة والتنمية إلى الحكم غي العام 2003. وتجدر الإشارة أن الجيش قام بمحاولة انقلاب عسكري سنة 2016 باءت بالفشل.

النظام العلماني ما زال قائماً في تركيا بعد مرور حوالي مئة عام على تأسيس الجمهورية. والصراع مُستمرٌ بين مؤسسات الدولة العميقة التي غرسها أتاتورك والتوجهات التغييرية للقوى الإسلامية المحافظة.

***

Share.

About Author

باسل عبدالله - مسؤول تحرير مجلة تواصل مدني

Comments are closed.