الدكتور كمال حمدان لمجلة “تواصل مدني”: 40% من الثروة بيد 1% من اللبنانيين والزواج بين الدولة والمصارف “كاثوليكي”

0

أجرى المقابلة أديب محفوض

العدد 23 من مجلة تواصل مدني عن شهر آب 2018

ليس من الحكمة في شيء انتظار سقوط الهيكل على رؤوس الجميع لكي نصدّق أننا كدولة وشعبٍ نعاني أزمةً كبيرةً، وقد تكون وجوديةً. وليس من السهل ابداً الخلاص منها، فكيف يُمكن للسلطات المُتعاقبة التي أغرقت البلد في هذه الدوّامة من الأزمات التي لا تنتهي، كيف يمكن لها أن تجترح الحلول! حيث لا يُمكن توقّع أي مسارِ إيجابيّ في ظل هذا النظام السياسي الذي أصبح بحد ذاته أساس وقلب الأزمة ومُتفرّعاتها.

عن الواقع السياسي والاقتصادي والمالي والنقدي، وفي سبيل تقييم المرحلة السابقة، واستشراف المرحلة المُقبلة من عمر هذا البلد، كان لمجلّة “تواصل مدني” هذا اللقاء مع المدير التنفيذي لمؤسسة البحوث والاستشارات، الخبير الاقتصادي، الدكتور كمال حمدان.

* استهل الدكتور حمدان اللقاء بالوقوف على التحرّكات الشعبيّة التي حاولت الضغط على السلطة في أكثر من مناسبة، والتي عُرفت بالحراك المدني وبإجراء إطلالةٍ على الواقع الاقتصادي بالأرقام، استناداً إلى الدراسات ذات الصلة، ليُظهر مدى فساد وترهّل هذا النظام السياسي والاقتصادي الذي يحكُمُنا.

بين القوى التي شكّلت الحراك الذي شهده لبنان في عامي 2011 و 2015، هناك مروحة تباين واسعة في النظرة إلى فهم مقولة المجتمع المدني. البعض يصل به الأمر إلى تقديس هذا المفهوم واسباغه فوق جميع الحقائق الأخرى كموضوع قائم بذاته، وهناك من يقع على المقلب الآخر تماما، ويحاول أن يمارس نوعاً من تبخيس وتبهيت لهذا المفهوم وإفراغه من مضمونه لدرجة التعامل معه من زاوية نظرية المؤامرة.

وكمقدمة قبل الدخول في الموضوع الأساسي، أعتقد خصوصاً بضوء ما يتأكد أكثر فأكثر من ظاهرة تركز فظيع للثروة والدخل في لبنان كما أكدته في السنتين الأخيرتين مجموعة من الدراسات القيمة جداً أجريت في جامعات فرنسية وبرامج تابعة للأمم المتحدة فضلاً عن القواعد الإحصائية ومؤشرات المقارنة حول تركز الدخل والثروة والتي تصدر عن منظمات دولية حيث نستطيع التحدّث عن طبقة الـ 4 % ، (طبعاً ظاهرة تركز الدخل والثروات في لبنان قائمة منذ أيام فؤاد شهاب).. هذه المصادر الثلاثة من المعلومات أكدت أن المنحى العام للنمط الإقتصادي الريعي الذي كان سائداً بعد الحرب الأهلية والذي أعطى الأولوية للإستثمار وتبادل الصفقات العقارية والفوائد وعرّى البلد من أي حماية مما جعل درجة تغطية قطاعاتنا المنتجة للإستيراد التي كانت تصل إلى نحو 40 إلى 50 % في منتصف السبعينات إنخفضت إلى 10إلى 15%، لم يعد لدينا مجتمعا منتجاً، تفككت أوصال القطاعات. مساهمة القطاعيين الصناعي والزراعي إنخفضت للنصف تقريباً مقارنة قبل 40 سنة أي من 40% حتى 12 إلى 14%. وكذلك إنخفضت للنصف مساهمتهم بالقوى العاملة أيضاً.. أنا لا أتكلم عن القطاعين الزراعي والصناعي ضد الخدمات، لا، في نهاية الأمر هو قطاع مثل باقي القطاعات، ولكن التجربة التاريخية لمراحل النمو الإقتصادي في الدول التي سبقت لبنان، والإنتقال إلى الخدمات ما حصل إلا بعد القيام بالثورة الصناعية… إستوعبوا كل مفاعيل عملية التصنيع مما أوجد الأساس الموضوعي للإنتقال إلى نشاطات خدماتية نبيلة فيها قيمة مضافة عالية، أما هنا في بلادنا فالقفز تم من الزراعة أو الصناعات التحويلية البسيطة إلى الخدمات مباشرةً دون المرور بحقبة تصنيع فعلية مما انعكس على بنية الخدمات والتي تشكل حاليا 80% من الناتج المحلي في لبنان ولكن قسم كبير منها تجارة تجزئة، قطع غيار، مطاعم….إلخ.

حصلت في العقدين الأخيرين اتجاهات واضحة جداً وصريحة وصارمة بإتجاه زيادة تركُّز الدخل والثروة في لبنان وأعطي مثلاً عن دراسة في جامعة السوربون – فرنسا، والتي قامت بها الباحثة ديديا أسود تحت إشراف بيكيتي، إستطاعت الوصول إلى خلاصة مفادها أن 1% من السكان يستحوذون على 25% من الدخل و40% من الثروة أي بين الستينات والآن، حركة تركز الثروة والدخل حركة صاعدة جداً وقوية ومُتمادية. لأقول ربطاً بموضوع المجتمع المدني، أنه خلافاً لكل إعتبار، بأن هذا المجتمع هو مجتمع إستهلاك – مجتمع لوكاندا- هذا التركز يعكس إنهيار في شرائح جداً واسعة من الفئات المتوسطة وما دون المتوسطة من الطبقة الوسطى.

الطبقة الوسطى فيها ثلاث شرائح أساسية: الشريحة العليا من الطبقة الوسطى، الشريحة الوسطى من الطبقة الوسطى، والشريحة الدنيا من الطبقة الوسطى. الشريحة الدنيا والوسطى من الطبقة الوسطى هي عرضة لإنهيارٍ وتساقطٍ فظيع خلال العشرين سنة الماضية.

كان من المفترض أن تُستوعب هذه الطبقات التي إنهارت من قبل النقابات النظامية وحتى غير النظامية منها أو بالأولوية الأحزاب السياسية اليسارية. يتبين لنا أن بنية هذه الاحزاب والحركات النقابية خصوصاً بعدما أُمعن بها تشويهاً وتدميراً من قبل السلطة كما حصل مع الحركة النقابية التي تم تفتيتها ووُضعت اليد عليها حتى أصبحت جزءاً من الوضع السياسي والإقتصادي والإجتماعي للبلد، وطبعاً كان لذلك نتيجة مماثلة على الأحزاب اليسارية. إنّ عدم قدرة هذه التشكيلات النقابية والحزبية على تلقي الإنهيار الذي يحصل بالشرائح الدنيا والوسطى من الطبقة الوسطى خلق أساساً موضوعياً – الهيولة – والتي هي عبارة عن مئات لا بل الآلاف من الجمعيات التي نشأت وسُمًيت مجتمع مدني، أنا أعترض وأنتقد تسميتها بمجتمع مدني، لأنني أخاف أن يكون وضع كل هذه الظاهرات تحت مسمى المجتمع المدني هدفه التستر أو تشويه حقيقة أن ما يجري في صلب تشكل وإعادة تشكل الطبقات الاجتماعية… يحاولون التستر أو إخفاء إنهيار أو تشكل أو إعادة تشكل الطبقات الإجتماعية تحت مسمى هذه الجمعيات والمجتمع المدني.

إن قاعدة الفقر تزداد، والشرائح الوسطى والدنيا من الطبقة الوسطى تنهار، موضوعيا كان من المفترض على النقابات والأحزاب اليسارية أن تتلقف هذه الإنهيارات، وتعزز صفوفها بأن تضم الفئات الطليعية من هذه الشرائح التي تنهار وتجدد من مظهرها ومن خطابها، وهذا ما لم يحصل.. ونتيجة لذلك ظهرت هذه الفقاعات التي عبرت عن نفسها بمئات وآلاف الجمعيات… لأنه في مجتمع مثل لبنان صغير ومحكوم بتأثر كبير بما يحصل في العالم، وأيضاً من المعروف بأنه مجتمع منفتح وأغلب سكانه يعيشون في الخارج، وفيه حساسيات طائفية ومناطقية كثيرة ومهنية… هي أصلاً جزء من الروافد التي عززت هذه الطفرة والتكاثر في عدد الجمعيات .. لأن هذه الطفرة والعدد الكبير من الجمعيات أصبحت ملعباً أساسياً للسياسين لمحاولة مصادرة قرار هذه المجتمعات.. تجد سفارات، قوى سلطة بكل أطرافها، حيتان المال واجهزة أمنية حتى لا نتحدث عن ما هو اخطر من ذلك، ربما نجد دور لإسرائيل!!

إذا، هذا المسرح الذي تتسابق عليه قوى إقتصادية وسياسية للإمساك بقراره ولكي يصبح بخدمة أجندتها وهنا لدي رأي، أنه لا يمكن للحركة المدنية بالمعنى الإيجابي أو للحركة اليسارية أو للحركة النقابية أن تقول: هذه الطفرة ريحتها طالعة… هذا هو الشيطان! أنا لست مع هذه النظرة لا بل أدين هذه النظرة – نظرية المؤامرة- وأقول أنه على الحركة النقابية وخصوصاً أحزاب اليسار والأحزاب الديمقراطية أن تكشف عن زنودها وتدخل إلى هذه المعركة الدائرة داخل ما يسمى بالمجتمع المدني وتنتزع ما يحق لها وأكيد هناك حصة وازنة داخل ما يسمى بالمجتمع المدني منشأهم وطريقة تفكيرهم وإنتمائهم الطبقي، موضوعيا هم حلفاء للحركة الديمقراطية واليسارية ولكنهم الآن موجودين ضمن هذا الفضاء وتدور معركة داخل هذا الفضاء بأجندات متنوعة معظمها خاص.

أنا كمثقف ورجل ديمقراطي لا يجب أن اعتبر أن كل هذا مُجرّد نظرية مؤامرة.. بل يجب أن أضع خطط لأنتزع هذا الجزء الثمين من هذه الجمعيات، وبرأي هذه هي المراهنة الأساسية لتُجدِّد الأحزاب بنيتها عبر الجزء القريب منها، والذي لديه نفس الإنتماء الإجتماعي والطبقي والخطاب السياسي والثقافي يكون قريب منك، وبذلك تكتسب هذه الأحزاب خلطة في بنيتها حتى تستطيع تحقيق التجدد. وهذا هو موقفي من المجتمع المدني ولقد عبرت عنه بمقال كتبته لمواجهة هذه النظريات الشعبوية حول نظرية المؤامرة.

*هل صحيح أن الدولة تخصص أكثر من مليار ومئتي مليون دولار لدعم بعض الجمعيات؟

لا..لا.. هذا خطأ من بعض الخبراء الإقتصاديين خلال إطلالاتهم في برامج الحوارات التلفزيونية… كل إنفاق الدولة حوالي 15 مليار دولار، هناك 40% خدمة دين أي 6 مليارات، يبقى 9 مليارات.. هذه التحويلات للجمعيات لا تاتي من وزارة واحدة فقط.. مع العلم ان هنالك مسؤولية لوزارة الشؤون الإجتماعية عن ذلك بالإضافة إلى تحويلات عن طريق وزارة الصحة وعن طريق عدة وزارات وهيئات عامة أخرى مثل الهيئة العليا للإغاثة… جميعهم وضع لهم تقريباً 300 إلى 400 مليون دولار…

* هناك جمعيات غير وهميّة، ولم تُأسّس فقط لتلقِّي المساعدات، بل هي ناشطة على الأرض. كيف تُقيّم آداء هذه الجمعيّات؟

أكيد أكيد.. وسأعطي مثلاً عن آب 2015 عندما إعتصم الناس بعدد هائل. كان هناك رعب شديد عند السلطة تجاه الناس لأول مرة في تاريخ النظام السياسي الطائفي اللبناني.. وهذا الخوف مؤكد لأن الزعماء كانوا يتصلون بنا لنشرح لهم ماذا يحصل… هذه محاولة جداً مهمة ولكن أيضاً لم تنجح، بل سأقول بأنها نجحت بمعنىً سلبيّ، أي جعلت أطراف في السلطة – وهم كثر وليسوا قلائل – يفهمون نقاطاً مهمة جداً يتبنون مطالب الشعب بخطاباتهم، والدليل على ذلك ما جرى خلال العملية الإنتخابية الأخيرة، حيث كانت شعارات الشعب المسروقة تتصدر خطاباتهم. إليك مثلاً دعوة حزب الله الآن لمكافحة الفساد.. أنا معه في هذه المكافحة… ولكن إذا لم ترتبط معركة مكافحة الفساد بمعركة إستبدال الدولة الطائفية بدولة تبنى على أنقاضها.. إذا لم ترتبط بهذا الأفق سيكون ضحك على الذقون.. وبالتالي لا يمكننا مكافحته..

* برأيك، من المسؤول عن عدم تحقيق الحراك لأهدافه في آب 2015؟

بإختصار، هذه الحركة الجماهيرية عفوية بشكل أساسي، لأن الناشطين الفعليين لا يشكلون 1% من هذا العدد، لذلك هذا التجمع العفوي الكبير لم يثمر لأنه كان يفتقد إلى مرجعية تنظيمية مؤسسية متوافق على خطوطها العامة وأن يكون هناك قبول بأن تكون هي في موقع قيادة لهذا الحراك العفوي.. ولا أقصد تنظيمي بالمعني الستاليني البوليسي.. وأيضاً خطة متفق عليها وهذا ما كا يفتقده الحراك. لذلك بات هنالك مزايدات بين جمعيات في الحراك وبين الجمعيات والأحزاب ثم بين الأحزاب فيما بينها… أحزاب ما يسمى يسار وما تبقى منها، ومن ثم تناتش بين أحزاب السلطة أيضاً مُحاولين أن تتفاعل هذه الحركة بإتجاه كل واحد منهم أو كل فريق كان يسعى لأن يحمي نفسه من نتائج هذا الحراك.. هاتان أكبر عقبتان: الخطة والتنظيم. إضافة إلى دور الإعلام والسلطة عبر الإعلام، دور تَشيِيِء هذه الحركة، ولا ننسى أن الإعلام مملوك من قبل السلطة أي من تتركز لصالحهم الثروة.

عبر التاريخ، عملياً، كل التجارب التي أدت إلى تغيير سياسي مع استثناءات بسيطة، هذا التغيير حصل نتيجة تجميع قوى، وعندما نقول تجميع قوى يجب أن نعطي أولوية لقواسم مشتركة ولو على حساب السقف العالي لمطلب الشعب أو الحراك، وأعطي مثلاً على ذلك حزب العمال البريطاني عندما انتقل من تشكيل نقابات، مع الإشارة إلى أن حزب العمال هو عبارة عن مجموعة نقابات… ثم عبر عملية تراكم لتحالفات وتجميع قوى استطاع الوصول إلى الحكم… وتجارب 2012 و2013 و2014 و2015 فشلت في تشكيل جبهات ولم يتمكنوا من تشكيل جبهاتهم ضمن إطار مؤسساتي مرن وجامع وبناءً على أجندة مبسطة ولكن جامعة… لأن رأينا أن عدد المطالب بات يُوازي عدد الجمعيات !!

هذا الرائِي (الذي يرى) لم يستطع جمع الناس تحت مطالب جامعة… والسؤال هنا هل نتعلم بحراكات جديدة… لا أعلم الصراحة!! أسوأ الأمور، إذا حصل الإنهيار ولم تكن هذه القوى جاهزة والتي من المفترض ان تكون جاهزة وقد حضّرت أجندة في إطار مؤسسي، حتى خلال الإنهيار تفاوض باسم الشعب حتى تفرض علاجات ليست لصالح المستغلين الذين سيركبون موجة الإنهيار للإستغلال وزيادة أوجه عدم العدالة …

أيضاً ممكن أن يعود سبب فشل الحراك إلى البنية الشخصية للفرد اللبناني بشكل عام الذي يعيش في مجتمع شديد الإنفتاح، والنظام الذي يعيش في ظله أشبه إلى أن يكون نظام فدرالي، وأيضاً سيطر عليه الفساد لدرجة أن الكثير من أشخاص سيئين حصلوا على مواقع عامة… فبات لديه فكرة إنتهاز فرصة للتسيد، أي لكي يصبح سيداً… وهذا متواجد بكثرة لدى من يحيطون بالسياسيين والزعماء لدينا، ليتقربوا أكثر من الزعيم، وموجود أكثر في هذا الفضاء المدني الذي لم ينتظم ضمن إطار مؤسسي ولم يتفق على أجندة مشتركة حيث يصبح دور النزاعات الشخصية مضاعفاً كثيراً، ومعظم الحراكات المدنية خضعت لإنشقاقات وضمِّ وفرز..

* كثُرت الإشارات في الآونة الأخيرة، وربطاً بتعثُّر تشكيل الحكومة، عن دقّة وخطورة الوضع المالي والنقدي للدولة اللبنانيّة. هذا التقييم السلبي المالي والنقدي، تضعه ضمن نطاق الواقع والدقة أم في سياق الشائعات؟

في أساسه هو واقع.. هنالك مخاوف. هل هذا الواقع المنفتح على مخاطر كبيرة جداً، هل يجعلنا عشية إنهيار (أي خلال أسابيع ام أشهر) أو هو يندرج ضمن فسحة زمنية أبعد قليلاً؟

أنا أميل إلى الرأي الثاني، وقد مررنا في باريس 1 إلى 2 إلى 3…. غزو إسرائيلي… إغتيال الحريري… حرب الـ 2006 …ألخ، وكانت الآراء بين الإقتصاديين بأن الإنهيار غداً، والواقع بيّن أن هذا التوقع كان سابقاً لأوانه. ولا تنسى أنه أولاً هناك اعتبارات سياسة وإقليمية ودولية تلعب دورها، ثانيا هناك عناصر قوة في البلد ليست محكومة بداخل البلد مثل التحويلات التي تعتبر صماماً للأمان والتي تشكل 15 الى 20% من إجمالي الناتج المحلي، وواقعياً ممكن أن تكون النسبة أكبر من ذلك، ثالثاً، وهذا ضعف ولكنه لا يزال موجوداً وهو الإستثمارات الأجنبية المباشرة… ولكن كل صمامات الآمان هذه ضعفت، يعني مثلاً صادراتنا لم تعد تغطي 15% من مستورداتنا وكانت تغطي حوالي النصف، ميزان المدفوعات لأول مرة في تاريخ لبنان يصاب بعجز 7 سنين متتالية بإستثناء فصل أو 2، في بداية العام 2017 حصل توازن أو فائض في ميزان المدفوعات بسبب الهندسات المالية لتي قام بها مصرف لبنان والتي هي عبارة عن أدوات مصطنعة لجلب عملة من الخارج مقابل كلفة كبيرة جداً ستقع على عاتق المكلّف والذي هو الشعب اللبناني.. فضلاً عن العجز في الحساب الأولي لحركة رؤوس الأموال…

ما يختصر كل هذه الوقائع والذي كان العامل الأهم لسيادة هذا النمط الريعي من التسعينات حتى الآن، هو حجم الودائع، معدل النمو السنوي للودائع في القطاع المصرفي، إذ لطالما كان هذا المعدل مرتفعاً، ومعنى ذلك أن هناك أموال تدخل إلى البلد، أي هناك إستعداد أكبر لكي تستدين الدولة من المصارف، وقد نشأ بين الدولة والمصارف نوع من الزواج الكاثوليكي رغم أن المصارف بخطابها أحياناً كانت تنتقد هذا الواقع ومخاطره ولكنها في الوقت عينه كانت تُكافأ من قِبل الدولة بمعدلات فائدة مرتفعة جداً وبالتالي استمرت هذه اللعبة.

ولكن متى بدأت؟ برأيي بدأت عبر إرتفاع الودائع من جهة وقدرة المصارف على توفير تغطية عجز الدولة من جهة ثانية وكان عجز هذه الأخيرة يزداد، هذه العملية التي إستمرت عشرين سنة كبالون يتم نفخه بشكل مستمر، جاءت فترة بعد العام 2011 وأصبح معدل النمو السنوي أقل من 5%. هذا المعدل كان يوماً ما 15% و12% و10% و20% أحياناً، في العامين 2007 و 2008 كانت الودائع تنمو بمعدل فوق 15%، القاعدة المالية تزيد، عندها قدرتك المالية تزيد، وبالتالي عملية تديين الدولة قائمة حتى لو زاد عجز الدولة وزادت حالتها سوءاً .. ولكن الآن عندما يبقى عجز الدولة يرتفع صعوداً والودائع لا تزيد بمعدل أكثر من 5% في السنة، عندها ليس هناك القدرة على مواكبة خدمة الدولة من خلال توفير تمويل العجز مما يجعل الدولة في لحظة معرَّضة لتصل إلى وضع لا تستطيع أن تفي دينها ولا تستطيع أيضاً أن تنفق على التعليم والإستشفاء مما يضطرنا للذهاب إلى صندوق النقد الدولي ويقوموا بكونسيرتو دولي ويضعوا شروط محددة مثل ما حصل في اليونان وغير اليونان، هذا الوضع ليس مُستبعداً ولكنه ليس غدا.ً

الودائع باتت تتجه نحو التناقص، وهناك شخص يريد أن يزيد إصدارات سندات الخزينة، والعجز يستمر صعوداً.

* يقول الوزير السابق شربل نحاس: “إن المسألة الاقتصاديّة في لبنان تكاد تنحصر في إطالة أمد وضع نقدي ومالي استثنائي، وقد حلّ الجهد المبذول ببراعة لإطالة أمد هذا الوضع محل أي سياسة اقتصادية”، فهل الدولة اللبنانية تفتقد فعلا إلى سياسة اقتصادية واضحة ومُعلنة؟

طبعاً تفتقد، والدليل أنها عقدت مؤتمر باريس 4، وذهبنا بـ 280 مشروعاً للبُنى التحتية نبحث لهم عن تمويل ولكن لم نذهب بخطة إقتصادية. الخطة الإقتصادية .. بل مفهوم الخطة الإقتصادية لا ينتطبق مع وثائق باريس 4، كما أن المحاولة التي تجري الآن ولم نعرف بعد نتائجها (دراسة ماكينزي) يقولون بأنها خارجة من ألف صفحة ولكن لا نعلم تفاصيل عنها غير الذي كتب في الصحف… ذهبوا وقابلوا كل الإختصاصيين مقابلات شخصية، درسوا كل الداتا وقاموا بنوع من الأولويات لفرص متاحة نعزز من خلالها قدراتنا الإقتصادية، أيضاً، بصعوبة أستطيع أن أسمي هذه بالخطة. بإختصار لا خطة إقتصادية حتى إشعار آخر وحتى لو وجدت، فنمط وبنية الطبقة السياسية الحاكمة المرتبطة بفهم مفهوم الديمقراطية التوافقية والحسابات المرتبطة بالمصالح التي لها علاقة بهذه الطائفة أو تلك، بهذه المنطقة أو تلك، يحول دون الوصول إلى أي نتيجة.

* تقول دكتور كمال في مقابلة مع جريدة الاخبار سنة 2008:”لا موالاة ومعارضة في الشأنين الاقتصادي والاجتماعي لكون الأجندة الاقتصادية لدى الفريقين لم تصل إلى مستوى البرامج المحددة الأهداف والمهل والتكاليف، كما إن القوى الاجتماعية التي سوف تتحمل هذه التكاليف أو تستفيد منها ليست محددة هي الأخرى، ما يعني أن «البازار» مفتوح بين الفريقين والمقايضات ممكنة وغسل دماغ الناس، وإبقاءهم أسرى التطييف والتمذهب والانقسام العمودي هو الطاغي”، فهل هناك تغيّر ما من عشر سنوات حتّى اليوم؟

التغيير هو الآمال التي خلقها الحراك والذي في هذه المرحلة لم تثمر، الآمال أثمرت بعض النتائج التي ظهرت في عدد من المعارك النقابية ذات الطابع الوطني مثل انتخابات نقابة المهندسين قبل سنتين، أو النسب المتزايدة التي تأخذها القوى المدنية واليسارية في إنتخابات المهن الأخرى حتى ولو لم تنجح، أو نتائج الإنتخابات البلدية التي أتاحت في بعض المناطق تسجيل خروقات هائلة… هذا التراكم كله، أي نتائج الإنتخابات البلدية عام 2016 غير عام 2006 أو 2010 ولكن طبعاً المشكلة أن هذه النجاحات لم تُصرف بشكل مباشر على مستوى السلطة.

* في مجال السياسة الإسكانية، أدار مصرف لبنان سياسة إسكانيّة قامت على إلغاء وزارة الإسكان و صندوق الاسكان المستقل، وغيرها من المؤسسات ذات الصلة، وحلّت محلها المؤسسة العامة للإسكان التي وصلت إلى ما وصلت اليه… كيف تُقيّمون السياسة الاسكانية للسلطات اللبنانيّة المُتعاقبة؟

في إطار هذا النموذج الإقتصادي الريعي الموجود منذ عقود، كان متوقعاً أن تعفي الدولة نفسها مما أعلنته مراراً وتكراراً بعدد كبير من التصريحات الإدارية في مطلع التسعينات عندما قالت عبر وزارة الإسكان التي كانت موجودة أصلاً، قالت أنها تريد بناء ثلاثين ألف وحدة سكنية، كان هناك تصور يومها أن هناك أمل بسياسة إسكانية، ولكن بعد أن ألغوا وزارة الإسكان وظهر أن كل ما قيل مجرد كلام ولم ينفذ منها شيء مع أننا نملك إحتياطي أراضي عامة ضخم.. لدينا أراضي بلديات، ومشاعات .. وهنا أُشيرإلى أنني شخصياً أول من طالب بإلزام الأوقاف الدينية بالتشارك مع الدولة على استثمار ربعها أو تلتها، يومها تم تهديدي لأنني قلت في مقابلة مع الأستاذ مارسيل غانم لماذا لا نفرض ضرائب على الأوقاف، لماذا الأوقاف معفية من الضرائب؟! خصوصاً ضريبة الأرض.
بإختصار كان هنالك عناصر نظرية لسياسة إسكانية لم تثمر شيئاً، ألغوا وزارة الإسكان واستبدلوها بالمؤسسة العامة للإسكان، وحصروا وظيفة الدولة بتمويل القروض فقط.
السياسة الإسكانية تحتاج إلتزاماً بإستخدام إحتياطي الملكيات العامة والمشاعات والبلديات وأراضي الأوقاف.. إذاً إختزلت السياسة الإقتصادية بالقروض فقط، والقروض يستفيد منها شرائح من الطبقة الوسطى ولكن تبين مؤخراً أن أحد أسباب المشكلة أنهم تحايلوا على منطق القانون وعلى مضمونه وذهبت نسبة ولا نعلم كم هي لكبار السياسيين على حساب الصغار.. مصرف لبنان الذي تزداد عليه الضغوط بشكل كبير لم يعد في وارد أن يستمر في هذه السياسة.. هناك حديث الآن عن مشروع بموجبه يُمكن أن تناط بالمؤسسة العامة للإسكان تدبّر أمر القروض، أو بديل آخر روّج له طرف سياسي، بأن ينقلوا عملية تنظيم القروض من مصرف لبنان إلى وزارة المال، ينطبق المثل التالي: “من تحت الدلفة لتحت المزراب”. مصرف لبنان لا زال يمتلك بعض المعايير وحد أدنى من الضوابط، أما وزارة المال.. “يا عين”!

* تُصنّف الدراسات بيروت في المركز الرابع بين 40 مدينة كبرى في العالم من حيثُ أعلى كلفة إسكان. ما أسباب ذلك، في ظل وجود شرائح واسعة جداً من اللبنانيين غير قادرة على تملّك شقق بالأسعار الرائجة حالياً؟

النظام الإقتصادي الريعي. إذا عدنا 30 و40 سنة إلى الوراء، على 700 إلى 800 سلعة، أكثر سلعة ارتفع سعرها هي سلعة السكن، وبالمقابل مداخيل الناس لم تلحق التضخم. القطاع لعام بالكاد استطاع ضبط 80 إلى 90% من الخسارة التي خسرها من العام 1996 إلى الآن.. وما زالت المشكلة قائمة.

لاحظ أنه من نهاية العام 1996 وحتى الآن، الثلاث زيادات المتراكمة للأجور، جهاد أزعور عام 2008 وغلاء المعيشة عام 2012 والسلسلة عام 2017، هذه الزيادات الثلاث أعطت في القطاع العام من 90 إلى100% تصحيح نسبة للعام 1996. موظفي القطاع الخاص الذين هم 5 أضعاف موظفي القطاع العام أي يمثلون 40% من المجتمع، أخذوا أول زيادتين فقط… الآن زادت إسمياً أجورهم 50 إلى 60% بينما التضخم المتراكم من 96 للآن فوق 130%. هذه الفئة هي التي نراها بالجمعيات والإضرابات والحراكات والمظاهرات… إذاً هناك تراجع إلى النصف في القوة الشرائية للأجراء في القطاع الخاص الذين هم غالبية الأجراء في لبنان، وهي بنية سوق العقارات في لبنان.. عندما كانت تأتي التحويلات بكثافة كبيرة والإستثمارات الأجنبية المباشرة، كانوا يشكلون حوالي 70% من الطلب على المساكن .. هذا الطلب من هذه الفئات لم يعد موجوداً كما كان من قبل. أما الباقي فهي فئات لبنانية ليس لديها القدرة لعدم وجود تناسب بين مستوى الدخل ومستوى سعر العقار المبني.

* هل تنظر بجديّة إلى حديث العديد من القوى السياسية عن محاربة الفساد؟
الفساد ظاهرة معقدة وتحتاج إلى تحليل. يجب أن نتفق أولاً ما هو الفساد؟

برأي الشخصي، الفساد هو ظاهرة عامة ومنتشرة خصوصا عبر العلاقات الزبائنية لزعماء الطوائف، فالفساد الأساسي هو في أروقة السلطة وعلاقتها بمجتمع الأعمال، فالفساد أساساً هناك، ولكن فتاته يستفيد منه عشرات، لا بل مئات الألوف من الناس، لذلك هناك عقبات وصعوبات كبيرة في هذا المجال. ومن بين مجمل الأسباب التي تكمن وراء الفساد، بتقديري أنّ النظام السايسي الطائفي هو بطبيعته مولد للفساد بالجملة، إذاً أي طرف يطرح مبادرة لمكافحة الفساد لم يربط هذا الطرح بالعمل على تفكيك النظام الطائفي واستبداله بنظام غير طائفي أو علماني مدني حقيقي.. برأي لن يكون لديه أمل كبير .

* شركة ماكنزي، هل يمكن أن تكون وسيلة عبور بعض القوى السياسيّة إلى تحقيق الخصخصة، باعتبارها معروفة بتشجيع سياسات الطرد الجماعي للموظّفين؟

من قال ذلك؟

قرأت هذا الأمر في أكثر من صحيفة.

برأيي، الأهم من ماكينزي هو خطة باريس 4، حيث هناك 285 مشروعاً تم طرحها بشكل صريح ومعلن، وحيث سيتم إشراك القطاع الخاص من خلال تمويل من 5 إلى 7 مليارات دولار عن طريق خصخصة الإدارة. فبعد 76 عاماً على الإستقلال فشلنا في بناء دولة، لكن هذا لا يجب أن يشعرنا باليأس من فكرة القطاع العام ودوره الذي يجب أن يبقى مركزياً. التقصير مردّه إلى أن حركة الإعتراض المدني واليساري والنقابي لم تستطع خلق ميزان قوى لفرض إصلاحات في بنية الدولة. الفشل في تحقيق الإصلاحات لا يجب أن يدفعنا إلى الإستسلام من خلال قبولنا شروط خصخصة الدولة، خصوصاً خصخصة الملكية، لا سيما إذا كانت المشاكل في بلدنا لا تنحصر فقط بالقطاع العام، بل تطال أيضاً بنية القطاع الخاص .. هناك احتكارات لا أحد يتحدّث عنها، فثلاثة أرباع أسواقنا الداخلية محكومة بالسيطرة شركتين أو ثلاث وهناك دراسة من 500 صفحة تأكد ذلك. هذه البنية الإحتكارية وعلاقة المحاباة بين كبار رجال الأعمال ومسؤولين في السلطة تشكل مخاطرَ كبيرة جداً على أي إستسهال لخصخصة إدارة المرفق العام، بينما، فيما لو كانت الحركة النقابية مُحصّنة وقوية والحركة المدنية واليسارية محصّنة وقوية، عندها أنا لا أُعارض خصخصة بعض الحلقات في الإدارات وليس في الملكية.. ولكن في ظل ميزان قوى هابط، ومحاباة بين رجال الأعمال ورجال السلطة، وفي ظل وجود تكتلات إحتكارية، فإن التسليم بهذه السهولة بفكرة الخصخصة هو ذهاب نحو المجهول.

* من المداخل المطروحة للحد من تفاقم الأزمة الإقتصادية على بعض الشرائح الإجتماعيّة، يتم التداول بتشريع زراعة الحشيشة. هل يستطيع مجلس النواب برأيك وضع آلية معينة لهذه الزراعة؟

تشريعها هو إعتراف بأمر واقع بأن الدولة لم تقم بأي شيء منذ 100 سنة لكي تحاول تغيير هذا الواقع المتردّي. بالعكس تركت الفقر والحرمان وإنعدام المرافق العامة، وتركت الناس تتدبر نفسها.. إلى الآن لا يوجد نظام سجلات قيد عقاري للمساحات الكبيرة في البقاع، حيث يرى الخبراء أنه كان من الممكن أن يتم القضاء على ظاهرة الفقر لو كان هناك سجلات قيد عقاري، أي لو مُكِّنت الناس من أن تأخذ ورقة للبنك وتقول أن لدي ضمانات أعطوني مالاً لتمويل مشروع صناعي أو زراعي… برأيي تشريع الحشيشة هو في النهاية إعتراف بأمر واقع… أعود لأقول أن المخاوف بظل هذا الآداء الرسمي للقوى الحاكمة ومواصفات القوى الحاكمة الذين “يتذبّحون” على واردات اكتشاف النفط قبل 7 سنين من تاريخ استخراجها، أنا خوفي من هؤلاء اللاعبين الكبار المُصممين على الاستمرار بربط “رَبعِهم” بهم بشكل زبائني، وأخشى أن يطيحوا بكل هذه الفكرة النبيلة بإستخدام الحشيش كمنتج طبي وكقيمة مضافة… نريد أن نرى من هو الذي سيشتري وبأي حالة سيشتري، هل سيشتري خام أم بالمزرعة أم على باب المزرعة أو بعد أول مرحلة من تصنيعه؟ ومن سيشتري وبأي سعر؟ وهل الأسعار تتفاوت؟ ومن يحدد النوعية بحيث يمكن أن تصبح الحشيشة المسيحية أغلى من الحشيشة الشيعية!

* كيف تتخيل وضع البلد مُستقبلاً مع نفط وحشيشة؟

إذا لم تتأطّر قوى الاعتراض بمعناه الواسع، بما فيها الحركة المدنية والنقابية واليسارية، بحيث تصبح جزءاً أساسياً من التوازنات السياسية والطبقية في البلد، فهناك مخاوف كبيرة جداً من أن نذهب بإتجاه جمهورية بوتستانا.

Share.

About Author

باسل عبدالله - مسؤول تحرير مجلة تواصل مدني

Comments are closed.