“ليس لدى البروليتارية ما تخسره سوى الأغلال”، لعل هذه الجملة التي ردّدها الصحافي حسّان الزين تعبّر عن حاله وحال غيره من الصحافيين الذين لا يزالون مُتمسّكين بالبعد الأخلاقي لمهنة الصحافة، ويرفضون الدخول في اللعبة، لعبة المال والسلطة وشراء الأقلام والضمائر. الطائر طليق الجناحين لا تحتجزه نافذةٌ، بل حدوده السماء. حسّان الزين، الصحافي الطموح والمتفائل، والذي خرج من السفير حالماً بأن يكون سفير الاعلام الحر والموضوعي، من خلال مشروعه “تغريدة” الذي يريده مساحة للحرية والمشاركة والمواطنة، كانت لنا معه هذه المقابلة.
◙ ماذا يعني أن تكون صحافيّاً ممارساً للمهنة في لبنان؟
في الوقت الحالي هذا يعني أنك أمام خيارين: إمّا أن تبيع نفسك أو تشتري نفسك وكرامتك.
◙ هل ما زالت مهنة الصحافة مهنة البحث عن الحقيقة ونشرها؟
لا أعرف إذا كانت كذلك يوماً في لبنان. وهي الآن ليست كذلك. هناك صحافيين جديّون ومستقلّون، إلا أن التحزّب والتبعيّة طغيا على توجهات معظم الصحافيين وعلى مهنة الصحافة ومؤسساتها. ووسائل الإعلام تنتقي ما يخدمها من حقائق تصب في مصلحة فريقها السياسي، فتثيرها في وجه الطرف الآخر. فالحقيقة في لبنان والوطن العربي ضائعة.
◙في ظل الانقسام الطائفي والسياسي بين اللبنانيين، والشح المالي الذي تعانيه وسائل الإعلام، إلى أي مدى يمكن الحديث عن موضوعيّة في العمل الصحافي؟
وسائل الإعلام لا تعاني من شح مالي بل من أزمات مالية تتكرّر بين وقتٍ وآخر. أمّا في خصوص الموضوعية، فالصحافة في لبنان فشلت في امتحان الموضوعيّة ولا سيّما بعد العام 2005.
◙هلأصبحت مهنة الصحافة في لبنان جزءاً من عدة شغل السياسيين، ولم تعُد قائمةً لذاتها ولأهدافها؟
لبنان لم يستطع أن يصنع دورة اقتصادية محترمة لوسائل الإعلام. وهناك ثلاث جهات ساهمت في ذلك: الطبقة السياسية، وسائل الإعلام اللاهثة دائماً وراء المال والسلطة، والمؤسسات الإعلانية، ولا سيّما مجموعة الشويري، من خلال احتكارها السوق الاعلانية وتحكّمها به. فافتقاد لبنان ووسائل الإعلام إلى دورة اقتصادية يدفع وسائل الإعلام إلى البحث عن دعم مالي سياسي لضمان استمراريتها. ومن المؤكّد أن القوى السياسية تحتاج إلى الإعلام، والإعلام يقترب أو يبتعد منها كأنّها الكوكب الذي يدور حوله. وهناك وسائل إعلام تتبع لقوى سياسية. وبالرغم من ذلك هناك هوامش في بعض وسائل الإعلام الخاصّة، أي التي لا تملكها القوى السياسيّة. وتتسع تلك الهوامش أو تضيق بحسب الظروف السياسية والظروف المالية للمؤسسات تلك وبحسب ظروفها التحريريّة.
◙وسائل الإعلام وإن لم تتبع لهذا الحزب أو ذاك، إلا أنها تتبع لخطٍ معيّن، بحيث يمكن تصنيفها ضمن فئتي 8 و14 آذار، ألا ترى أن التبعيّة دائماً موجودة؟
التبعية موجودة وقد يُستبدل السلاح من كتف إلى أخرى.
◙ولكن كيف يمكن الحديث عن هامش من الحريّة لوسائل الإعلام غير الحزبية وإحداها مثلاً لم تحتمل “تغريدة”؟
هامش الحرية في وسائل الإعلام، كما ذكرت، يتّسع أو يتقلّص بحسب الظروف السياسية والظروف المالية والإدارية والتحريرية للمؤسسة. وتغريدة منذ البداية اتفقنا، عماد الدين رائف وإيلي القصّيفي وأنا، على أن تكون خارج السرب، ومختلفة عن جريدة “السفير”، من دون أن تكون مع توجّه 14 آذار. فهي تنتمي إلى المواطنة والمدنيّة. وبعدما كانت “السفير” تحتملها جاءت ظروف قلّصت مساحة الحرية، علماً أن هناك سبباً آخر لوقف “تغريدة” في “السفير”، ألا وهو حسابات شخصية لا تحبّذ توفير مساحة نشر لأشخاص من خارج العائلة والمحظيين، ولو كان محاربة هؤلاء مضر للمؤسسة وهويتها وانتشارها. إنّها العقلية الصحافية القديمة المتجددة في إدارة الأمور.
◙منيتحمّل مسؤولية تردّي هذا الواقع الإعلامي، بتبعيته شبه المطلقة للطبقة السياسية والمالية؟
ثلاثة أطراف: السلطة السياسية وطريقة تجويفها للسياسة والإعلام، شركات الإعلان التي ساهمت دائماً في دفع وسائل الإعلام إلى التبعية للسلطة السياسيّة وللمال السياسي، ووسائل الإعلام التي لم تعمل على التحرّر من هذه الحلقة، فلم تستطع أن تواكب التطوّر الحاصل، وبقيت المساحات الاعلانية والتقنية أسيرة قواعد العمل التقليدية. ففيما تخفق “السفير” في تطوير موقعها الالكتروني والتطور معه، اختارت “النهار” بتوجيه من المعلن فصل الموقع عن الجريدة التي صارت من التراث وهي مستمرة لأن ثمة إعلانات يجب أن تُنشر ورقيّاً، ومتى تختفي الاعلانات ستواجه “النهار” التي تنال الحصة الأكبر من الاعلانات، والصحف الأخرى، أزمة مصير.
◙إضافةً الى الأطراف الثلاثة التي ذكرت، ألا ترى أن الصحافيين يتحملون بعض المسؤولية من خلال السعي إلى تحقيق المكاسب المالية والسلطوية، وهو ما يتضّح عبر سهولة الانتقال من وسيلة إلى أخرى؟
هذا الأمر صحيح، فنحن في حالة انهيار أخلاقي. وكتبت مرّةً عن ظاهرة الصحافيين الذين تعتمدهم وسائل الإعلام مندوبين لدى مقرّات المسؤولين السياسيين، فيتحولون إلى ممثلين للمسؤولين في الوسيلة الاعلامية. فالفساد موجود في الصحف، والرأس يرعاه، ويقبل بالصحافيين الفاسدين أكثر من غيرهم. والوسط الإعلامي إلى حدٍ ما فاسد، من قَبل حقبة رفيق الحريري. إلا أنّ التعميم هنا لا يجوز، فهناك صحافيون أوادم.
◙في 20 نيسان 2015 أنشأ الصحافيون حسان الزين وعماد الدين رائف وإيلي القصّيفي مدوّنة “تغريدة” في زمن العصفوريّة. ما الهدف الأساسي لهذه المدوّنة؟
هدف مدونة “تغريدة” الحفاظ على مساحة إعلاميّة متنوّعة يملكها مواطنون مستقلّون ذوو توجّه مدني ديموقراطي. ونحن نسعى للمشاركة في التفكير والحراك المُواطني والمدني، خارج الاصطفاف الطائفي والمذهبي والسياسي، إضافةً إلى الأهداف المهنيّة، ومنها بناء صحافة مواطنية مستقلّة تقوم على إشراك المواطنين فيها.
◙ماذا خسر حسّان الزين عندما استقال من “السفير”، وماذا ربح من تأسيس مدوّنة “تغريدة”؟
(أجاب ضاحكاً): ليس لدى البروليتارية ما تخسره سوى الأغلال. خسرتُ الوظيفة والضمان الاجتماعي والاستقرار، وربحتُ فرصة لتأسيس صحافة مستقلة وصحافة مواطنة عصريّة.
◙في الصراع اللبناني الحالي أين تجد نفسك؟
خارج القوى السياسية كلّياً.
◙هل تستطيع أن تكون ضد طرف من الأطراف بالمطلق؟
عقليّاً وأخلاقيّاً لا أستطيع أن أكون ضد أحد بالمطلق. حتّى إسرائيل، وهي عدو وطني، لا أذهب إلى معاداتها بالمطلق، كأن أصبح معادياً لليهود لكونهم يهوداً. العداء بالمطلق موقف قَبلي وعنفيّ وأنا شخص لا عُنفي.
◙ برأيك، ما الحل لهذا الواقع اللبناني المأزوم؟
أنا دائماً مع دولة القانون والمؤسسات، مع الديمقراطيّة، ولا أرى حلاً غير ذلك.
◙هل يمكن تحقيق هذا الهدف في ظل النظام الطائفي والتعصّب والانقسام؟
صعب. علينا العمل لفصل الدولة عن النظام وإطلاق ورشة تحرير الدولة وإعادة بنائها وتطويرها.
◙ ما رأيك بالحل الذي يطرحه تيار المجتمع المدني، المتمثل بالعلمانية الإيجابية التي تحترم الاديان؟
أنا مع هذا التوجّه، وليس من مصلحة العلمانيين أن يُستهلكوا في الصراع مع الدين، فهذا أمر صعب ومؤثّر على حركة التغيير. فليُترك الشأن الديني للأفراد وحريّاتهم. وليهتم العلمانيّون والمدنيّون والديموقراطيّون وغيرهم ممن يريدون التغيير والانتماء إلى الكوكب والعصر في بناء دولة القانون والمؤسسات، في بناء مجتمعهم والحفاظ على تراكم التطور الاجتماعي والثقافي، وفي منع تحكّم العنف في حركتنا وبلادنا. فالعنف هو العدو الأول للتطور والإنسان. ولا عنفَ مبرراً أو يمكن أن ينتج إنساناً وحضارة وسلماً.
◙ كيف ترى واقع لبنان والدول العربيّة في ظل ما تشهده من ثورات وحروب؟
لست متشائماً ولا متفائل. لكنّي أرى أن هذا الواقع لا يُمكن أن يستمر على ما هو عليه طويلاً. ما يقلقني هو صفقات الدول الكبرى التي تتحكم بنا وتعبث بمصائرنا. وأشعر بأن المواطن العربي الذي انقلب ربيعه عليه، لن يبقى مُغيّباً ومأخوذاً إلى أمدٍ بعيد، ولن يكون الحل إلا بوجود دول ديمقراطية لا تخضع لأية تبعيّة.