مجلة تواصل مدني – العدد 16- عن شهر 4/2016- – ص. 3- إعداد حسان الزين
من نخة إلى غريغوار
يستند هذا النص إلى كتابات عن المطران غريغوار حداد وحوارات معه وتصريحات له.
أنا نخلة أمين حدّاد، وأنا غريغوار حدّاد.
منذ ولدت، نخلة أمين (1924)، أحمل أسماء غيري، كأنني مندور لأحمل آخرين، بل الآخرين، في قلبي وفي وجداني وفي حياتي ومسلكي وأفكاري. البداية مع الأديب والشاعر أمين نخلة، إبن أمير الزجل اللبناني الشاعر رشيد نخلة الذي ألّف النشيد الوطني اللبناني، “كلّنا للوطن”. وليست النهاية مع البطريرك غريغوريوس حداد الذي ترأس كنيسة انطاكيا اليونانيّة الأرثوذوكسية من سنة 1906 حتى سنة 1923. فهذه محطّة أخرى من درب الجلجلة وحملي الصليب. وقد حملت هذا الاسم، غريغوار حداد، عندما سُيّمت كاهناً في عمر الخامسة والعشرين (1949)، نزولاً عند رغبة أبي، وتقديراً لهذا البطريرك المتزهّد والعلاّمة صديق أهل المعرفة، وصديق المسلمين، القومي العربي الذي وزّع خيرات الكنيسة على الفقراء، إبّان المجاعة.
لا تنحصر تراجيدياي الوجوديّة بالأسماء والأشخاص، وهذه وحدها أمانة، ولاسيّما إذا تذكّرنا من هما وكيف نظرا إلى الإنسان وإلى الحـضارات. فالخشـبة الثـانية في صليبي، إذا جاز التعبير، ولادتي من عائلة بروتستانتية متحدّرة من أصل أرثوذكسي، وأنا صرت كاثوليكيّاً. فهذا التعدّد في هويّتي الدينية في أصل مسكونيّتي. وإذا كانت هويّتي هكذا، منذ البداية، متعدّدة، متنوّعة، كيف أغلقها أو أضيّقها وأنغلق عليها وفيها؟ لم أسأل نفسي هذا السؤال، بل حسبته واعتقدته جواباً أو بداية جواب ومفتاحاً لانفتاح، بل لإعادة نظر في معتقدات راسخة جامدة. حسبت هذا السؤال الجواب، وهذا التعدد التنوّع، وهذه المعتقدات القديمة المتوارثة، توأم الفقر. والفقر يبقى فقراً، بل يزداد بؤساً، إذا ما استسلمنا له، إذا ما انغلقنا على الأسئلة والأجوبة، وإذا ما تجاهلنا التعدد والتنوّع ورفضناهما، وإذا ما توارثنا المعتقدات وقدّسناها خارج الزمان والمكان من دون عقل ونظر وتبيئة. بينما إذا انطلقنا من الفقر، من التعدد والتنوّع، من الأسئلة والأجوبة، من المعتقدات، من الزمان والمكان، من البيئة، من الإنسان وإليه، وإلى الآفاق، نجعل الفقر نقيضه، أي الثراء، ونكون جديرين بالحياة والإنسانيّة وبالمسيح والأنبياء والرسل.
منذ صغري، أنا الحامل الأسماء والسير والآخرين، كنت أبدو جادّاً، ومشغولاً بغير أمور الأطفال والشبّان. كنت أبدو أشيباً حتى قبل أن يحترق شعر رأسي بياضاً. أدركت ذلك باكراً، والآخرون أدركوا ذلك. ولم يتحول الأمر عقدة إذ بقيت علاقاتي بالآخرين بسيطة ودودة مفتوحة دائماً على المزاح. فلم أصطنع صورة أخرى لنفسي، ولا وسوست في رأسي الثقافة لأنطق بلغة متعالية على الحياة والأحياء وتسعى لاستحواذها واستحواذهم. حافظت على طبيعتي التي لم يكن غريباً عنها وعليها زي الكهنوت. فلطالما كنت، حتى قبل هذا الزي ومن دونه، مثل شخص يرتديه، ومعه مزجت جدّيتي ومزاحي الخجول وبساطتي. وحرصت على أن أبقى صورة شفّافة لنفسي. هكذا، كنت حتى لأترابي مثل أخ أكبر. لم أمارس الرياضة مثلاً، إلا نادراً، وقد تركتها لشقيقي كمال ورفاقه، فكنت أشجّعهم على تحويلها جوّاً ومناسبةً للعمل العام ولخدمة المجتمع وللتلاقي، في منطقة متنوّعة دينيّاً ومذهبيّاً.
لا أنسى كيف كان أبي، مدرّس اللغة العربية، يطلعني على المجلات والكتب، وكلّها تحكي بالتنوير وإصلاح الإنسان والمجتمعات والأديان. دلّني على جبران خليل جبران الذي كانت قراءته ممنوعة، وعلى ميخائيل نعيمة وإيليا أبو ماضي والياس أبو شبكة. وما أدراك من هؤلاء في الانفتاح على الثقافات والشعوب وأحوالها وأهوالها وأحلامها؟ وإذ درّبني أبي على فنون الكتابة، فسح لي المجال في التعبير السهل عن الأفكار العميقة. لكن يبقى الأهم هو ما زرعه أبي فيَّ من حب للمعرفة والبحث عما لا نعرفه وإعمال العقل في اللامفكّر فيه. هكذا، لم أتردد في قراءة أعمال المفكر الأب ثيار دو شاردان، الملعون كنسيّاً آنذاك. وقد أُعجبت بفكره الذي اطلعت عليه سرّاً، ومهّد لي الطريق العقلي لبدء مراجعة البديهيّات. فدو شاردان مفصل في حياتي، ولعلّي أشبهه في بُعد علاقتنا بالكنيسة أو علاقة الكنيسة بنا.
أحببت دراسة اللاهوت في جامعة القديس يوسف للآباء اليسوعيين في بيروت. يجذبني هذا العالم الرحب، يفتح شهيتي على المعرفة والبحث بلا حدود. لكني ولا مرّة شعرت بأنني من أولئك الذين يريدون أن يقضوا حياتهم بين الكتب بعيداً من الناس. لذا، لم يزعجني تعييني نائباً عاماً على أبرشيّة بيروت (للروم الكاثوليك)، في 1952.
شعرت بأن مسؤوليّاتي تجاه الناس تزداد. ولا أنفي أن ذلك أخافني. هنا، تكرّر السؤال المتعب: أي إنسان، فالإنسان هو كل البشرية، وأنا أخدم في كنيسة، والإنسان في مدينتي، وفي وطني، وفي محيطي وعالمي، ليس “ابن” الكنيسة فحسب، ليس المسيحي والكاثوليكي فحسب، هو الإنسان. الإنسان هو الإنسان، بمعزل عن دينه ومعتقده وانتمائه. وقلت: “إذا كانت الثورات قد وقعت في معظم الأحيان في بلاد ضد الكنيسة وأساقفتها، أو أحياناً، من دون الكنيسة، فلأن معظم رجالات الكنيسة قد حدّو اهتمامهم بالمؤسسة الدينيّة، تاركين التعليم المسيحي الأول: حب القريب، لأن خدمة الإنسان الضعيف تأتي قبل خدمة المسيح”.
لكنّي، أفكّر في هذا ولبنان يذهب مسرعاً في الاتجاه المعاكس، نحو أزمة طائفية وإنقسام عنفي. ولا أدري إذا كنت أنا عكس التيّار أو هو. ليس هذا مهمّاً. المهم أنَّ التوتر الطائفي بات حرباً (1958). وهكذا وجدنا أنفسنا ونحن نعمل لتأسيس حركة اجتماعية لاطائفيّة كأننا بائعو أوهام أو موهومون.
في مجمل الأحوال تأجل مشروعنا تأسيس الحركة الاجتماعية. وحسناً حصل، إذ انتُخب قائد الجيش فؤاد شهاب رئيساً للجمهورية. لم أمتدحه ولن أمدحه، لكنني شعرت بأنّه صادق في كلامه عن الإنماء المتوازن بين المناطق وتقليص الفجوة بين الأقليّة التي تحتكر الثروة والأكثـرية المحرومة. قلت إذا عملنا لننخسر، بينما سنخسر إذا لم نعمل.
أسّسنا الحركة، في العام 1961، وتألّفت اللجنة التأسيسية من ستة شبان وشابّات مسلمين ومسيحيين. وفيما اتهمت بعض الأوساط الحكوميّة الحركة بأنّها تريد خلق دولة ضمن الدولة لكونها تعمل في الصحة والتربية ولديها مكاتب لتوظيف العاطلين من العمل وبيوت رعاية للأطفال لدى خروج أمهاتهم إلى العمل إضافة إلى المساكن الشعبيّة، وصف بعض اليسار الحركة بالإصلاحية وأخذ عليها أنها تصرف الشبيبة عن العمل السياسي وتمتص النقمة الشعبية.
إلى جانب هذا، ومع عملنا لتقديم الخدمات ونشر المراكز في القرى والمدن والأحياء الفقيرة (وصل عددها إلى 14)، كان ثمة ما يشغلني: المجمع الفاتيكاني الثاني الذي سيُعقد في عام 1965، بل تشغلني الإصلاحات التي نعمل لإقرارها في المجمع. وليس سريّاً أمر الوثيقة التي وقّعتها من بين 300 مطرانٍ من معظم دول العالم، نتعهّد فيها ممارسة الفقر في حياتنا الشخصيّة. وبالرغم من أنني لا أحب التسميات والتوصيفات، كأن أُنسَب إلى حركة لاهوت التحرير التي نشأت في أميركا اللاتينية على أيدي المبشّرين الأوروبيين، إلا أنني لن أعارض. فسواء كنت قريباً من هذه الحركة أم لا، أنا أنتمي إلى الفعل من أجل تغيير اجتماعي إقتصادي يهدف إلى إعطاء الأمل إلى الفقراء والمهمّشين.
وعودة إلى حياتي، إذ لا يستهويني التنظير والوعظ، أقول: رُسِّمت في سنة 1965 أسقفاً، وقمت بمهمّة أسقف معاون للمطران فيليبس نبعة، الذي أسند إليَّ أثناء مرضه مسؤوليّة خدمة أبرشيّة بيروت. وقد توفي بعد ثلاث سنوات فانتخبني السينودوس مطراناً أصيلاً.
أول ما فكّرت فيه هو إصلاح أحوال الأبرشيّة إصلاحاً جذريّاً، فهي أبرشيّة كبيرة تضم عشر رعايا في بيروت وعشراً في ضواحي بيروت وعشرين في جبل لبنان. وقد سعى المطران نبعة إلى الحد من تباعد الفروقات بين دخل الكهنة الذي يراوح بين 1500 ليرة و150 ليرة شهريّاً، بحسب اختلاف المراكز الراعويّة. فوضعت تنظيماً ماليّاً جديداً تشترك في تمويله العائلات بحسب امكانات كلٍّ منها، فتصير جميع الخدمات الدينيّة، من عمادات وزواجات وجنازات، مجانيّة، على أن يتقاضى كل من المطران والكهنة رواتب متساوية من الصندوق العام. وكذلك طبّقت مبادئ العدالة الاجتـماعيّـة على العمال
العلمانيين المشتغلين في الأبرشيّات. وهكذا تمكّنت العائلات التي كانت تعمل لسنوات طويلة في أراضي الوقف من أن تستملك تلك الأراضي. وعلى هذه الأسس سار العمل الرسولي من دون أن يتعثّر بالمشاكل الماليّة، وألّفت مجلس الكهنة والمجلس الرعوي الذي يضم عناصر من العلمانيين والرهبان والراهبات والكهنة وممثلين عن المجالس الرعوية، وأسست لجنة الطقوس الكنسيّة ولجنة الوعظ واللجنة المدرسيّة واللجنة الاجتماعيّة. وبهذا طبّقت أحد توجيهات المجمع الفاتيكاني الثاني الذي يدعو إلى إشراك العلمانيين في إدارة الكنيسة.
وفكّرت، في السنوات الأولى من سبعينات القرن الماضي، أنَّ حركتنا الاجتماعية بحاجة إلى منبر ثقافي، كي تقول خطابها العلماني اللاعنفي وكي تحاور وتتحاور فتسهم في الحياة الثقافية بل في الورشة الإنسانيّة المنفتحة على العالم وقضاياه ومستجداته وفلسفاته وأفكاره وتيّاراته.
وفي 15 كانون الثاني 1974 صدر العدد الأول من مجلة “آفاق”، ثمرة جهد تشاركتُ فيه مع بولس الخوري وجيروم شاهين وانضم إلينا في ما بعد ميشال سبع. وكان لظهور “آفاق” وقع كبير في الأوساط اللبنانية والعربية. فالمجلة، في عددها الأول، نشرت ملفاً بعنوان لماذا “آفاق”؟ أفصح عن منطلقاتها وخيـاراتها والتزامها واسـتـقـلالـيـتها وعزمها علىالمساهمة في التحويل الحضاري للمجتمع اللبناني والمجتمعات العربية نحو الحداثة غير الإلحادية بروح نقدية إيجابية وعلى أكثر من صعيد. وتصدّرت الأعداد الستة الأولى مقالات لي في شؤون الدين بنفحة عصرية، تنتقد الدين، أي البنى الكنسية والممارسات الدينية لمصلحة الإيمان الملتزم بالإنسان. وأُثيرت أزمة حول هذه المقالات التي لم أكتبها بلغة أكاديمية ومنهج جاف إنما بأسلوب سلس بسيط يحاكي الراهن وأساليب تعبيره ولغته. أعرف أن كثيرين كانوا يتململون من بساطتي وفقري وافتقار مظهري إلى الأبهة. ولكن، لهؤلاء أكرر ما قاله المسيح لرسله: “جئت لأخدم، لا كي أُخدّم” و”من كان فيكم كبيراً فليكن خادماً للجميع”.
لنكن واضحين، دائماً كنت مع قول الأمور كما هي ببساطة: كثيرون في الكنيسة اللبنانيّة ليسوا متحمّسين لمقررات المجمع الفاتيكاني الثاني (1965). فالمجمع الفاتيكاني يُخرجنا من الجمود والتقوقع، وتطبيقه يتطلّب تجاوز الأنانيّة والجهل وتعزيز المعرفة والتعمّق. لهذا دعوت وأدعو إلى الحوار بين الكهنة. والحوار ممكن في الكنيسة شرط أن نكون متسامحين بعضنا مع بعض. وضروري اكتشاف الغنى في اللاهوت والحوار يتيح ذلك.وأعرف القول إنني لا أمثّل خير تمثيل مركز مطران يترأس أكبر أبرشيّة للروم الكاثوليك في البلاد العربيّة وأهمّها عددياً وإقتصاديّاً. لكن القصّة أعقد من ذلك. مَن يعترض عليّ يعترض على نهجي وتفكيري. وأعرف أن هناك من هو ضدي لأنّه ضد هذه العناوين التي تعارض مصالحه وربّما تتهددها.
باختصار وبكلام مباشر، راح سياسيّون مسيحيون وكنسيّون ينظرون إليَّ وإلى حركتي وأفكاري وكتاباتي من خلال خطابهم، ومن مدى قربي أو بعدي من سياساتهم. هكذا، وبعدما كانوا يحسبونني شهابيّاً وهم متحالفون ضدّ الرئيس فؤاد شهاب، صرت بالنسبة إليهم، في عهد الرئيس شارل حلو وفي ذروة حربهم مع اليسار والفلسطينيين، يساريّاً وحليفاً للفلسطينيين. ولولا هذه الأجواء السياسيّة لكانت كتاباتي مرّت على خير أو لم تكن لتستفزهم إلى هذا الحد. والأهم من تقاطع مصالح بعض السياسيين مع آراء بعض الكنسيين، إنَّ البلد كلّه كان على فوّهة البركان الطائفي، وكل جبهة من الطائفتين، المسيحيّة والمسلمة، باتت لا تطيق الحركات التعايشيّة والوطنيّة. وإلاَّ كيف أقرأ، ونقرأ، المجريات الكنسيّة لقضية اتهامي بالتناقض مع العقيدة الكاثوليكيّة. ففيما اعتبرني بعض الكنسيين في لبنان، وعلى رأسهم البطريرك (الراحل) مكسيموس الخامس حكيم، خطراً على الكنيسة، لم يجد أربعة لاهوتيين من خمسة أعضاء في اللجنة التي ألّفها السينودوس لدراسة الجوانب الإيمانية والعقائدية في كتاباتي، ما يبرر حكماً من جانب السينودوس. كذلك أكّدت اللجنة المختصّة في الفاتيكان، التي استُدعيت للمثول أمامها، أن كتاباتي لا تخرج على العقيدة الكاثوليكيّة. وبالرغم من ذلك كفَّ البطريرك حكيم يدي عن إدارة أبرشيتي مدّة شهرين، أثناء نظر السينودوس في قضيتي، ثم مدد تعليق صلاحيّاتي، ثم تم الاتفاق على أن أعود إلى أبرشيّتي في السادس من شباط 1975 في أبعد حد. وفي الموعد المحدد أعلن البطريرك أنّه تلقّى من المجمع الشرقي رسالة تدعو إلى تمديد فترة تعليق صلاحيّاتي إلى أن يبت مجمع العقيدة والإيمان نهائيّاً الموضوع. وفي النهاية، اتخذ سينودوس الكنيسة (الروم الكاثوليك) قراراً إداريّاً بنقلي من أبرشيّة بيروت، وأسند إليَّ منصب مطران فخري على أبرشيّة أضنة في تركيا. وهذا بالنسبة إلي ليس حفظاً لحقّي فحسب، إنّما هو تأكيد على أنّني مسيحي إيمانيّاً وعقائديّاً ولاهوتيّاً، ولست مسيحيّاً طائفيّاً أو سياسيّاً.
دفعتُ الثمن، ودفعَت الحركة الاجتماعيّة وكل حركة مثلها تعايشيّة وطنيّة وعلمانيّة، الثمن؟ ربّما، لكنني لست نادماً. دفعت الثمن سياسيّاً وكنسيّاً، وأنا لست سياسيّاً ولا كنسيّاً بالمعنى الضيّق للكلمة.
أنا إنسان. وبديهي أن تكون الحركة الاجتماعيّة، وهي ليست حزباً سياسيّاً يركن إلى طائفة وسلاح، أول من يدفع ثمن الجنون الذي يذهب إليه البلد. لكنَّ الحركة لم تقف مكتوفة الأيدي مستسلمةً لقدر الحرب والإنقسام الطائفي، بل رفضت ذلك وشاركت في تنظيم تحرّكات عابرة للمتاريس والمحاور، وقد لاقاها آلاف المواطنين.
لجمع المعلومات الميدانيّة في خدمة التنمية المحليّة أو الوطنيّة. وكانت أولى الدراسات التي نفّذها “الكومبيوتر البشري” هذا عن القطاع الصحي الأهلي والتي أُسست للتنسيق بين المستوصفات الحكومية والأهليّة.تعبنا في الحرب، لكننا لم نتوقف، بقينا نتنقّل بين منطقة وأخرى، عبر الحواجز وتحت القصف. وكما صرخنا وعملنا قبل الحرب كي لا تنفجر، لكنّها حلّت وأضرمت بيت نارها، كذلك صرخنا إبانها، من اللحظة الأولى حتى الأخيرة، كي تتوقف… و”تنذكر تَما تنعاد”. الحربُ مجرمة، ودمّرت كثيراً، وكادت تهزمنا وتسحقنا لولا الإصرار على الاستمرار، وقد إضطررنا إلى تغيير أنشطتنا وخدماتنا، فبعدما كنّا نبني وننشئ مشاريع الصحّة والسكن والرعاية الاجتماعيّة، صرنا نرمّم ونداوي ونغيث المهجّرين.وبعدما كانت الحركة الاجتماعيّة للسكن قد أنشأت مشروعاً يوفّر المسكن لنحو مئة عائلة فتيّة، حالت الأحداث دون تطوير البرنامج. وبالرغم من المأساة، إلا أنني أحببت تجربة “هيئة إنماء قضاء عاليه”، بين 1979 و1982، التي أنشأت في كل بلدة من بلدات القضاء السبعين لجنة تنمية محليّة، قامت بمشاريع متنوّعة: حفر آبار إرتوازيّة، شق طرق زراعية، وحتّى تمويل أفلام تربوية… وغيرها.
وقد حاولتُ تعميم هذه التجربة على الأقضية الأخرى، خصوصاً أنّها تقوم على التشارك بين القطاعين الأهلي والحكومي في معالجة المشكلات وإقامة المشاريع التنموية المحليّة التي تتناسب مع الموارد المتاحة والحاجات المبنية على دراسة الواقع. وفي هذه الفترة كنت قد سمعت بالكومبي
وتر، فأخذني الطموح إلى إبداع فكرة “الكومبيوتر البشري” وقوامه مجموعة محقّـقـين ميدانيين مؤهّـلـيـن ومنتشرين في المناطق اللبنانية مهيئين دائماً
وكما عملنا كي تبتعد الشبيبة عن السلاح والعنف نحو الانفتاح والتعلم، كذلك قلنا بعد الحرب أن علينا أدواراً سلميّة نؤّديها. فعملت، ابتداءً من العام 1998، مع مجموعة من الرفاق لتأسيس “تيار المجتمع المدني”، وهو هيئة سياسية غير حزبية، يعتمد الحوار والتكامل مع الهيئات ذات الثوابت المشتركة، ويسعى للتغيير من خلال تشكيل قوى ضاغطة على مراكز القرار. أما المبادئ الأساسية فهي سيادة الدولة، العلمانية (حياد إيجابي تجاه الأديان والمعتقدات)، الديمقراطية، المشاركة، التنمية الشاملة والعروبة. ها هنا، انزعج كثيرون، أو بدأوا يعدون عكسياً لمشكلة قد أتسبب بها.وسمعت من أشخاص، بما في ذلك أصدقاء، اعتراضات على قطعي عزلتي التي استمرت نحو سبع سنوات في شبروح ثم في الربوة.
إحدى ثمرات التيار والعمل تنظيم مؤتمر العلمانيين، في 2006، الذي جمع عدداً كبيراً من الباحثين عن تجديد معنى الوطن والدولة والإنسان والعيش فى هذه البقعة الغالية من الأرض. وكنت سعيداً بكثافة الحضور الشبابي، من الجنسين، في هذه المسيرة المتجدّدة. وما إن فُتح باب شطب القيد من سجلات النفوس، 2007، حتى سارعت إلى ذلك، محتفياً ومفتتحاً زمناً جديداً في عمري، وكنتُ في عمر 83 . والوقت في هذا العمر، وفي أعمار الشعوب، يجري سريعاً، لذا لم أستغرب فرحتي، بعد نحو 4 سنوات، بحراك إسقاط النظام الطائفي. وإذ أصررت على المشاركة في تظاهراتها استجاب الشباب وصحّتي المتواضعة لرجائي، وذهبت إلى إحدى التظاهرات بالسيارة لأكون قريباً من الشباب والحالمين بوطن للجميع وبدولة علمانيّة.
ولاموني أو انتقدوا رفاقي على عودتي إلى العمل في الشأن العام. واعتبروا أن الظروف غير مناسبة، انطلاقاً من اعتبارهم أنني أحرج المسيحيين أكثر مما أزعج المسلمين. وكأن علي أن أحرج المسلمين كي يرضى المسيحيّون عنّي أو العكس. وأنا أصلاً لا أفكر في هذا، فلست سلاحاً يُستعمل ضد هذا الفريق أو ذاك. لا أعرف كيف جعلوني مزعجاً حتى في صمتي الذي كنت أحسبه تفكيراً وصلاةً. جعلوني لأنني علماني كابوساً لهم، بينما أنا أحد العابرين في حلم لا يمكن أسره. أنا إنسان، والإنسان ووطني، معاً، بحاجة إلى تغيير وإلى عمل من أجل ذلك.