أجرى المقابلة أديب محفوض
لم تكن التربية بالنسبة له وسيلةً
للإثراء ولا فرصةً لتسلّق المناصب، بل آمن ببناء الإنسان المواطن الواعي والمثقّف
والمسؤول إذا توفّرت مقوّمات البناء التي صرف جُلّ عمره باحثًا فيها.
لم ينصفه القيّمون على التربية في هذا
البلد، وهو لم يكن يومًا مُداومًا في بلاط سلطان، ولا مادحًا ولا مروّجًا لمشاريع فئويّة
أو مصلحيّة أو خارجيّة لا تخدم رؤيته التربويّة، تلك الرؤية التي يرى، هو ومجموعة من
روّاد العمل التربوي، أنّها تشكّل حجر الزاوية في بناء وطن الإنسان والقانون والنظام
والعدالة الاجتماعيّة، ولإن ضنّ عليه البعض من أصحاب سلطة القرار التربوي الرسمي كما
الخاص، بمنحه ما يستحقّ من قيمة تليق بقامة تربويّة أعطت وناضلت في سبيل التربية والمدرسة
الرسميّة والجامعة اللبنانيّة ما يزيد على نصف قرن، فإنّ التقدير الكبير له بين طلّابه
وزم لائه يفيه بعضًا ممّا يستحقه.
الدكتور حسّان قبيسي، الأستاذ المتقاعد
من الجامعة اللبنانيّة –كليّة التربية، المتخصّص في
علوم التربية، والحائز على الدكتوراه في علوم التربية من جامعة السوربون الفرنسيّة،
وصاحب الباع الطويل في تعليم كافّة علوم التربية، له العديد من الأبحاث العلميّة والمؤلفات
وأشهرها كتاب: نظام التعليم في لبنان. حاورناه في هذا العدد الخاص من مجلّة "تواصل مدني"، فطرحنا عليه جملة من الأسئلة
بهدف تشريح وتوصيف واقع التربية في لبنان، واستشراف مستقبلها القريب والبعيد
هل تعتقد دكتور أنّ ثمّة سياسة تربويّة
اعتمدتها الدولة اللبنانيّة في الفترات الزمنيّة السابقة لأزمات العام 2019؟
بالتأكيد،
هناك سياسة تربويّة اعتمدتها السلطات السياسيّة منذ استقلال لبنان، ومن النتائج
الأساسيّة لهذه السياسة ترسيخ الانقسام الطائفي الطبقي على مستوى كلّ لبنان.
والدليل الواضح على هذه السياسة هو اعتماد "حرية التعليم في لبنان" الذي
يترجم بإعطاء الحريّة الكاملة للطوائف بفتح المدارس المخصّصة لأبناء طائفة معيّنة،
الأمر الذي يكرّس الانقسام الطائفي من جهة، واعتماد التعليم مدفوع الثمن من جهة
أخرى، الذي يكرّس الانقسام الطبقي، والسماح لأطراف أجنبيّة فتح المدارس في لبنان،
الأمر الذي يتناقض مع مبدأ إعداد المواطن ذي الانتماء الوطني اللبناني،
"وليست الحكومات الحالية مسؤولة وحدها عن استمرار هذه السيّئات وعن
ازديادها" كما قال عمر فروخ عام 1945.
ما هي أهمّ معالم تلك السياسة؟
أهمّ
معالم السياسة التربويّة التي تمّ اعتمادها منذ الاستقلال هو الانقسام الطائفي
والانقسام الطبقي، فتاريخ التعليم في لبنان يمثّل تاريخ لبنان نفسه، كما أعلن فؤاد
أفرام البستاني عام 1950. فأبناء كلّ طائفة يلتحقون بالمدرسة التي تديرها الطائفة
نفسها. وهذه المدارس منها غالية الأقساط وفيها نوع من التعليم همّه إيصال أبناء
الطبقة المميّزة في الطائفة لتبوّء المراكز الاجتماعيّة العالية المخصّصة للطائفة،
ومدارس أخرى رخيصة الأقساط، وهي معدّة لاستقبال فقراء الطائفة.
أمّا المدارس الرسميّة المجانيّة فقد تأخّر
اعتمادها كثيرًا بعد الاستقلال، وكان معظم روّادها من الفقراء في جنوب لبنان
وشماله.
ما هي ملاحظاتك على مجمل الواقع التربوي
الذي ساد حتّى بداية الأزمات )قبل 2019(؟
كان
التعليم عندما كان لبنان جزءًا من الدولة العثمانيّة خارج وظيفة الدولة، فالتعليم
شأن ديني تتولّى أمره المؤسّسات الدينيّة. فهو عند الطوائف المحمّديّة كان خاضعًا
للسلطة العثمانيّة الذي انعكس تعليمًا قديم العهد وبخاصّة في بعض المدن. أمّا
التعليم في المناطق المسيحيّة فكان موجودًا في كلّ دير وكنيسة. فالمسيحيّون أهل
ذمّة ولهم الحقّ بإنشاء مؤسّساتهم تحت سلطة رؤسائهم الروحيّين، فعمد رجال الدين
إلى تأسيس مدارس راقية في مختلف مناطقهم، أضيفت إلى مدارس الإرساليّات.أمّا الخطوة
الأولى لإنشاء مدرسة رسميّة في لبنان الخاضع للسلطة العثمانيّة فقد تأخّر إلى
العام 1838، عندما أنشئت المدارس الملكيّة. وفي العام 1913 صدر قانون التعليم الذي
نصّ على إنشاء التعليم الرسمي الذي حُصر بالتعليم الابتدائي، وظلّ حقّ المدارس ذات
المستويات العليا محصورًا بالمدارس الطائفيّة، وبخاصّة المسيحيّة منها، المحليّة
والأجنبيّة.
كيف ترى الوضع التربوي العام وكيف تقوّمه؟
إبقاء إنشاء المؤسّسات التعليميّة من حقوق المؤسّسات
الدينيّة والخاصّة كان له تأثير كبير على المجتمعات اللبنانيّة منذ الاستق لال
وحتى اليوم، إذ أنه كرّس الانقسام الطائفي من جهة والانقسام الطبقي من جهة ثانية.
الإبقاء
على حقّ الطوائف بإنشاء مدارسها، أدّى إلى تقوقع أبناء كلّ طائفة في مؤسّساتها
الخاصّة، الأمر الذي قلّل، إذا لم نقل منع، التعايش والتواصل بين أبناء الطوائف
ونشر ثقافة وطنيّة جامعة.
الإبقاء
على اعتماد التعليم المدفوع الثمن أدّى إلى ترسيخ الانقسام الطبقي داخل الطوائف من
جهة، وإلى تكريس التعليم الرسمي لأبناء الطوائف الفقيرة من جهة ثانية، كما كرّس أن
يكون حَمَلة الشهادات العليا من أبناء الطوائف التي تتيح لهم مدارسهم نيل الشهادات
العليا، وأن يكون ت لامذة التعليم الرسمي من حَمَلة شهادات من مستويات متدنّية،
لأنّ مدارسهم لا تشتمل مستويات تعليميّة عليا من جهة، ولأنّهم من الطبقات الفقيرة
من جهة ثانية. بالمقابل انتشرت مدارس خاصّة تجاريّة من مستويات متدنيّة لا تسعى
إلّا إلى الربح المادّي.
أُبقي حقّ
فتح المدارس الخاصّة متاحًا للمتاجرين بالتعليم، فانتشرت المؤسّسات الخاصّة غالية
الثمن، والتي استقطبت معلّمين من مستوى جيّد، الأمر الذي جعلها قادرة على توفير
الشهادات لأبناء الطبقات الغنيّة. في المقابل انتشرت مدارس خاصّة تجاريّة ذات
مستوى تعليمي هابط هدفها ليس إلّا تحقيق الأرباح.
إقفال دُور
المعلّمين التي أنشئت لإعداد المعلّمين الابتدائيّين وتدريبهم، وبعده إقفال كليّة
التربية في الجامعة اللبنانيّة، والتي كانت مهمّتها إعداد الأساتذة الثانويّين،
الأمر الذي كان له تأثير على المدارس الرسميّة ومستوى التعليم فيها. واستُعيض عن
التدريب في تلك المؤسّسات بتعيين معلّمين انطلاقًا من الشهادات التي يحملونها،
والوساطات التي تدعمهم، الأمر الذي زاد من تدنّي مستوى التعليم الرسمي.
التأخّر عن
إنشاء مؤسّستي الإشراف التربوي والتفتيش التربوي، اللّتين بقيتا دون تحديد ودون
أيّ إعداد للعاملين فيهما، الأمر الذي أدّى إلى نشوب صراع بينهما، وإلى إلغاء أيّ
تنفيذ للمهمّات التي أوكِلَت إليهما.
كيف تقوّم الوضع التربوي الحالي؟
الوضع التربوي حاليًّا ما زال يتيح الحقّ
لأيّ كان فتح مدرسة، فالقانون يسمح بفتح المؤسّسات التعليميّة، وسيّان إذا كان من
يقوم بذلك همّه التجارة، أو التمييز الطائفي أو الطبقي، أو إذا كان طرفًا أجنبيًّا.
المدارس
الرسميّة تعاني من مشكلات عديدة النقص في عدد المدارس وفي تجهيزاتها وفي معلّميها؛
_ النقص
في إعداد مديري المدارس، فمهمّات مدير المدرسة يتطلّب القيام بها شخص تمّ إعداده
الإداري والتربوي معًا؛
_ النقص
في إعداد المعلّمين والأساتذة وتدريبهم، فالمهمّة التعليميّة تتطلّب إعدادًا
مسبقًا وتدريبًا مستمرًّا للتعرّف على المبادئ التعليميّة والطرائق والأساليب
والتقويم واستعمال وسائل التعليم. ومع إقفال دُور المعلّمين، والتقليص الكبير لدور
كليّة التربية في الجامعة اللبنانيّة، انعكس ذلك سلبًا على المدارس الرسميّة. أمّا
المدارس الخاصّة ف لا توجد رقابة على الهيئات التعليميّة فيها ولا على شروط امتهان
التعليم.
_ تمّ
إنشاء "التفتيش التربوي" لمراقبة التعليم الرسمي والحرص على مستوى
التعليم فيه، وهو لا يتبع وزارة التربية، بل هو مؤسّسة مستقلّة. ولكن، للأسف
الشديد، فإنّ هذه المهمّة لم يستطع التفتيش القيام بها لقلّة عدد المفتّشين وعدم
إعدادهم وتدريبهم وتقليص صلاحيّاته وحصرها في التعليم الرسمي فقط.
_ تمّ
إنشاء "الإشراف التربوي" للعمل على متابعة وتحسين مستوى العاملين في
القطاع الرسمي، ولكن، وللأسف، فإنّ صلاحيّات المشرف المحدودة والمتقاطعة مع
صلاحيّات المفتش، إضافةً إلى عدد المشرفين القليل جدًّا، جعل الإشراف التربوي
مجرّد اسم دون أيّة صلاحيّات عمليّة مفيدة.
_ كون
إدارة التعليم الرسمي مركزيّة، وكون ميزانيّة وزارة التربيّة محدودة جدًّا، وكون
مهمّاتها مقتصرة على التعليم الرسمي دون الخاص، انعكس ذلك انخفاضًا في مستوى
التعليم الرسمي من جهة، وتفلّتًا في نوعيّة التعليم الخاص ومستواه ومدى التزامه
المنهج التعليمي الرسمي.
من المسؤول عن هذا التردّي الذي أصاب
ت لامذة التعليم الرسمي من حَمَلة شهادات من مستويات متدنيّة وعن تفلّت التعليم الخاص؟
المسؤول
عن هذا التردّي الذي جعل مستوى التعليم الرسمي هابطًا والتعليم الخاص متفلّتا
طائفيًّا وتربويًّا وتجاريًّا هو ذلك الدستور الذي نصّ على"حريّة التعليم في
لبنان "، إذ سمح للمتاجرين بالتعليم والمؤسّسات الدينيّة والأجنبيّة بتحويل
التعليم إلى أداة لترسيخ الانقسام الطبقي والطائفي من جهة، وسمح للمؤسّسات
الأجنبيّة، من جهة أخرى بتخطّي التربية الوطنيّة التي هي من أهمّ عوامل الإعداد
الوطني.
كيف يُمكن الخروج من هذا الواقع المأزوم
تربوياً؟
إنّ
الهدف الرئيسي من إنشاء وزارة التربية الوطنيّة هو إعداد المواطن اللبناني بشكل
متساوٍ وموحّد، والقادر على تخطّي الانقسام الطائفي والطبقي، وذي الانتماء الوطني
الحقيقي، والمساواة في الحصول على تربية سليمة قادرة على إنتاج مواطن بصورة موحّدة
خارج الانتماء الطبقي والطائفي. ويتمّ ذلك من خلال:
_ إعادة
النظر بأهداف وزارة التربية ومهمّاتها؛
_ إعادة
النظر بهيكليّة وزارة التربية ومؤسّساتها الاعداديّة والاشرافيّة والرقابيّة؛
_ عدم
السماح لأيّ كان بالقيام بالمهمّات الإداريّة والتعليميّة دون إعداد وتدريب، الأمر
الذي يتطلّب الاهتمام بمؤسّسات إعداد المعلّمين وتدريبهم والإشراف والتفتيش على
كلّ المدارس للتأكّد من مستوى التعليم ورفع شأنه.
برأيك دكتور، ما الذي يحول دون ترسيخ
ثقافة وسلوك المواطنة بين الأجيال الناشئة في لبنان؟
إنّ
ما يحول دون ترسيخ ثقافة وطنيّة هو:عدم إلزام كلّ المؤسّسات التعليميّة في لبنان
بمنهج تربوي واحد، تقرّه وزارة التربية، مهمّته الإعداد الوطني والاجتماعي
والاقتصادي.
_ عدم
إعداد المعلمين، في الرسمي وفي الخاص، كما وعدم إلزامهم باتباع طرائق تعليمية
قادرة على ترسيخ الانتماء الوطني من جهة، وعلى تحقيق الأهداف التربوية التي تسعى
بالأساس إلى تحويل الأطفال الوافدين على الوجود، إلى مواطنين اجتماعيين وفاعلين.
_ الغياب
الكامل لمؤسستي الإرشاد والتفتيش، وعدم قدرة هاتين المؤسستين على تحقيق الأهداف
الأساسية من إنشائهما، وأهمها السعي لإعداد مواطن ملتزم وفاعل.
ولكن، وللأسف الشديد، ستظلّ الأمور على ما
هي عليه، مع وجود دستور ينصّ على حرية التعليم دون أية شروط أو رقابة، وفي غياب
وزارة تربية قادرة على تحديد مهماتها بدقة، وعلى تأمين الشروط ال لازمة لنجاحها في
تحقيق تلك الأهداف