أجرى المقابلة: أديب محفوض وتغريد حمادة
ليس صدفةً أن يتّخذ فنانٌ لنفسِهِ مساراً مختلفاً، فيُغرّد خارج سرب من أرادوا الفن والموسيقى وسيلة اكتسابٍ ورُبمّا إثراء.
فمن اتخذ لنفسه مسار الالتزام في الفن، فقد تماهى مع جمهوره ليُصبح واحداً منهم، تجمعه بهم القضايا والهموم والأحلام المشتركة. إذاً، هو خيارٌ واعٍ لمسارٍ نضاليٍّ فيه ما فيه من احتمالات النجاحات والخيبات.
أحمد قعبور، الفنّان والمُثقّف والمُناضل الذي ارتبط اسمه بفلسطين حتّى ظنّه أهلها فلسطينيّاً، لا زال يجد ما يستحق أن يحيا ويُغنّي ويُناضل من أجلِه بالرغم من مُسلسل خيبات هذا الوطن الذي لا ينتهي.
– انطلقت في مسيرتك الفنيّة من مستشفى ميداني، حيثُ غنّيت “أناديكم” للمرّة الأولى. ما العوامل التي دفعت الفنان أحمد قعبور إلى سلوك المنحى الفني الذي سلكه (عنيت الأغنية الملتزمة أو الوطنيّة)؟
أولى الدوافع كانت البيئة التي تربّيت فيها، فمنزلنا كان في “قصقص”، المجاورة لمُخيّم صبرا، ووالدي كان أوّل عازف كمنجة في بيروت، وربما في لبنان، وكان يصطحبني إلى الإذاعة اللبنانيّة فأرى كبار الفنّانين، فشاهدت كيف يتم تسجيل الأوبيرايت الوطنيّة.
أما على المستوى الاجتماعي فكانت أوضاعنا لا نُحسدُ عليها، حيث كانت أميّ تصطحبني معها إلى سوق الخضار في صبرا لمساعدتها في حمل شنطة الجلد، وكانت تشتري من باعة الخضار اللبنانيين والفلسطينيين والسوريين، فالأسى كان واحداً، وكذلك الجوع والفقر، ولكن بلهجاتٍ مُتعدّدة. وحينها رأيت الفدائي الفلسطيني، وكل ذلك معطوفاً على قصصٍ قرأتها لغسّان كنفاني في عمرٍ مُبكر، حتى أنني سمّيت ابني “سعد” تيمُّناً بقصّة أم سعد، أوّل قصّة قرأتها لغسّان كنفاني. فالبيئة الاجتماعية، وحضور الوالد في الأغنية الوطنيّة، واحتكاكي مع الأثر اللبناني والفلسطيني، والوعي السياسي المُتقدّم لشقيقي الأكبر، كل ذلك دفعني إلى هذا المكان.
– مِن الوسط الغنائي، من كان مصدر إلهامك؟
هناك مجموعة مؤثّرات كانت حاسمة في التأثير علي، فتجربة سيّد درويش الذي أعتبِره أبو الأغنية ذات الطابع الإنساني والأخلاقي، وكذلك الشيخ إمام وآخرون، وصولاً إلى أصحاب الشأن الكبير في الغناء الفرنسي، مثل جاك بريل وجورج موستاكي ولييو فريه، وشعر آراغون وإيليار وغيرهم.
كل هذه الثقافة ساهمت في صناعة هويّتي الفنيّة.
– كونك ملكت منذ انطلاقتك مقوّمات الفنان الناجح، هل تمنّيت أو تخيّلت نفسك يوماً ما في موقعٍ فنّيٍ آخر؟ مطرب عاطفي أو شعبي مثلاً لما لهذا الخط من مردود مادي وحياةٍ مُرفّهةٍ؟
مرّت لحظات كنت فيها على وشك الخضوع لمعادلة العرض والطلب الاستهلاكية بسبب ضيق الحال. ولكن في كل مرّة كنت عندما أفكّر في تغيير جلدي، كان هذا الجلد عصيّاً على التغيير. وفات الأوان الآن على التغيير، والأمر أصلاً غير وارد. فالقناعات هي نفسها، لكن ربما أساليب التعبير قد تتغيّر. قد تصبح أنضج وأهدأ، فتحاول أن تهمس بدلاً من أن تصرخ. فالصراخ أحياناً يصم الآذان فيكون الهمس أوضح وأدق. وأنا لدي انتماء أخلاقي وإنساني لبيئتي وناسي، حيث حمّلني والدي أمانةً عندما بكى يوماً في العام 1967 يوم سمعنا على الراديو بسقوط الجولان وسينا والقدس والضفّة. كنت صغيراً حينها، وقد رأيت أحدهم يُسجّل الأغاني الوطنيّة وهو يبكي. سألت والدي عن السبب، فأجابني: “بعدين بتعرف”.
رُبما أغنية أناديكم كانت لاحقاً لكفكفة دموع الوالد.
– كيف تشرح العلامة الفارقة لدى بعض الملحنين، حيث تعرف اسم الملحن من مُجرّد انطلاق المقدمة الموسيقيّة للأغنية؟ فمثلاً، عند سماعي لأحد الأناشيد المدرسيّة، عرفت منذ اللحظة الأولى أنه من ألحان أحمد قعبور.
أحد أهم الأشخاص الذين تتلمذت على يديهم الأستاذ سليم فليفل ابن الاستاذ محمد فليفل، فالأستاذ سليم فليفل علّمني الموسيقى وعزّز فكرة النشيد لديّ، إلى حد أنني كنت أعتقد وأنا في المرحلة المتوسطة أن الوطن هو الأناشيد التي كنّا نغنيها، وهو البيانو الموجود في الطابق الثالث في مدرسة البر والاحسان التي قُصِفت خلال الاجتياح الاسرائيلي، إلى هذا الحد كنت مأخوذاً بالفكرة. فيبدو أنني تأثرت بقالب النشيد، فلحّنت أناشيد لأكثر من ثلاثين مؤسسة جامعّية وتربويّة.
أما بخصوص السؤال، فأعتقد أن لكلٍ منّا بصمته الخاصة في العمل الثقافي أو الروحي أو الفني أو السياسي، للعين بصمة، وعلى كلٍ منّا أن يعمل على تظهير بصمته الخاصة، ليس حُباً بالاختلاف، إنما حُباً بإظهار قيمة الفرد وعلاقته بالمجموعة، وهذه البصمة تكون ذات طابع عام إذا كانت تتشارك في همومها وتطلعاتها وأفراحها وآلامها وطموحاتها مع الآخرين. ولا بدّ أن تكون البداية مع البصمة الفردية، فأمواج البحر التي لم تهدأ على مر العصور لم تتطابق يوماً. وبالتالي هذه البصمة هي بصمتنا الخاصة كونها جزءٌ من هويّتنا. وهناك بصمة فردية واخرى اجتماعيّة أيضاً.
– لكن من الواضح أن هناك من لا يملك تلك البصمة.
لأن الهموم تذهب في اتجاهات متعددة، وأنا أحمل الهم الإنساني والثقافي والأخلاقي والحضاري والاجتماعي، أحمل أعباءً كثيرة، ودفعت ثمناً غالياً، إلا أن إحساسي بالإنجازات كبير جداً.
– أيٍ من أعمالك الفنيّة تجد فيها بصمتك الخاصة، والذي تراه الأقرب إليك؟
الجواب على هذا السؤال سوف يكون مُرتبِكاً لأن هناك الكثير من الأغاني التي يُحبها الناس. وهناك أغاني أقل شعبيّةً بالنسبة للناس، لكنّها تعني الكثير لي. إلا أنني لا أستطيع استبعاد “أناديكم”. تلك الأغنية التي أصبح عمرها 43 سنة، وغنيتها في سن ال 16 سنة، وحمّلتني مسؤوليّات كبيرة. فأنا أحب هذه الأغنية، وأحب أغنية الضفة لأنها ساهمت بشكل غير مباشر في الانتفاضة الأولى والثانية. وكذلك الأمر بالنسبة لأغنية حق العودة وأغنية بدي غنّي للناس.
– ما المسؤوليّة التي حملَتك إياها أغنية أناديكم؟
التعبير عن حق الناس وشغفهم في أن يكونوا أحراراً على أرضٍ حرّة.
– بالإضافة إلى الغناء، لأحمد قعبور تجارب تمثيليّة ومسرحيّة، ولا سيّما مع مسرح الأطفال. ما أهم هذه التجارب؟
في بدايات العمل مع الأطفال، مع فرقة السنابل والدكتور غازي مكداشي، كممثل ومغني وكاتب نصوص، ثم لاحقاً مع مسرح الدمى اللبناني، مع كريم دكروب، أنجزنا أكثر من 20 مسرحيّة، وهو عدد هائل. كما أننا شاركنا في مهرجانات عربية وأوروبيّة وعرضنا في الصين أيضاً. وفي سياق الحديث عن مسرح الأطفال، أنا أعتقد أن أحدنا حينما يتقدّم في العمر هو يتقدّم نحو طفولته وليس نحو شيخوخته. وهنا السر الجميل بين الأجداد والأحفاد. فالجميع هنا يصبحون أطفالاً. وأنا حريصٌ على ذلك الطفل الذي لا زال شغوفاً، وحريصٌ أكثر على أنْ ألوّن أغنية الأطفال العربية ببعض الفرح والأمل. فليس كل أغاني التراث تحمل الفرح، بل تنطوي أحياناً على الحزن، كما عندما يخاطب أحدهم ابنه في أغنية: “نام يا حبيبي نام لذبحلك طير الحمام ..”، فالذبح موجود حتى في اغاني الاطفال. فهنا حتى التراث الشعبي عُرضة للنقد. وأنا أحاول الذهاب إلى الضفة الاخرى لإضفاء بعض الفرح.
– أحمد قعبور أضفى على ليالي رمضان، ولعدّة سنوات، دفئاً خالصاً من خلال مجموعة أعمال حَفرت عميقاً في وجداننا مثل: صلوا على النبي، بيروت يا بيروت يا قصة، صبح الصباح، من طلب العلا، حلونجي يا إسماعيل، لو جمعنا دموع الأرض، علّوا البيارق .. لماذا ابتعدت عن هذه الأجواء التي أحبها الناس، فلم تكرّرها؟
أنا لم أبتعد عن هذه الأجواء، إلا أن النتاج الفني إذا لم يُعرض على الشاشة فلا تعلم به. وأحييت عرضاً فنيّاً في رمضان الماضي في مترو المدينة تحت اسم “رمضانيّات أحمد قعبور” حيث رغبت في استعادة 24 أغنية أحبَّها الناس. ولربّما في رمضان القادم أقيم احتفالاً هائلاً، من الممكن أن يكون في حرش بيروت أو في الملعب البلدي أو في ساحة الشهداء لكي يُغنِّي معي الآلاف .. أمّا قصّة رمضان فلها حكاية، ذاك السحر الخالص في النهوض الجماعي لتناول السحور ثم الخلود إلى النوم .. “أنا ياما عيّرت الساعة ونيّمتها حدّي، ويقرّب منّي على غفلة وياخدها جدّي”، جدّي خليل والد أمّي عنا له رمضان الكثير، ليس بالمعنى الدّيني فقط وإنما بهذا اللّقاء الّذي يحصل،” كيف أنّ ربّة المنزل تطبخ، وفلان يرسل ابنه لجلب الحمّص من عند فلان”، إنّها طقوس ظريفة، اكتشفت عندما كنت صغيراً أنّه يوجد طقس “السّحور”، وهذا طقس لم أكن أعرفه، سحرني. حيث يستيقظ النّاس للأكل والتّحادث ويعودون للنّوم بمعزل عن المعاني الدينيّة، فقلت لجدّي خليل أن يوقظني على السّحور ولكنّه من خوفه على صغر سنّي لم يرد أن يوقظني، كذب عليّ، ضبط المُنبّه ولكنّه أخذه. إذاً فالحكاية حكايتي.
– ما أهميّة أن يكون الفنان صاحب مشروع أو قضيّة؟ ألا يكفي أن يكون فناناّ لمجرّد اشتغاله بالفن؟
الاشتغال بالفن لا يعني فقط البحث عن قيمة جماليّة نُقدّمها للعالم، مسرحاً أو لحناً أو لوحة، يعتقد البعض أن مهمة الفنان تنتهي هنا. أنا أعتقد أن الفنان يجب أن يختزن روح الجماعة، وهذه الروح يجب أن يُعبّر عنها في الألحان. فالفنان لا يعيش معزولاً عن العالم حتى يكتفي بالتعبير فقط عن معاناته الشخصية مع حبيبته أو عن حبه لجمهوره مع أنه ينساه في معظم الاوقات… أنا أستغرب من الفنان الذي يعيش ظروف ناسه ولا يشعر بهم ومعهم، فينظر إليهم على أنهم مجرد مجموعة من المُستمعين له. الفن أبعد وأرقى من ذلك.
– انطلقت فنياَ مع اندلاع الحرب الاهلية، واتّخذت لنفسك مساراً فنيّاً يستتبع موقفاً سياسيّاً. ما هي قراءتك الآن لمسار الحرب الاهلية التي كانت معها انطلاقتك؟ هل قمت بنقدٍ ذاتي؟
طبعاً، طبعاً، فمن يطلب من الآخرين أن يتغيّروا، الأولى به أن ينتقد نفسه ويجري قراءة جديدة ومُتجدّدة. لكن في كل الحالات هناك ثوابت جوهريّة يجب ألا تتغيّر. وما يشفع لي أنّ سيرتي السياسيّة لم تتلوّث بالدم. وانتمائي إلى كل القضايا التي عبّرتُ عنها لم يكن بأساسه انتماءً أيديولوجيّاً، بل كان أساسه إنسانياً وأخلاقيّاً. فأنا لم أنتَمِ للقضيّة الفلسطينيّة لسبب قطري أو قومي، وهذا أمر مطلوب، لكن أن تكون يساريّاً أو مُثقّفاً، فيجب أن تنحاز إلى كل مظلوم. وفي لحظة العام 1975، كان المظلوم الفقير اللبناني واللاجئ الفلسطيني والعامل السوري المنتهكة حقوقه. أنا انتميت إلى هؤلاء الناس. ومع الوقت لاحظت أن القضيّة الفلسطينيّة لم تعد قضيّة بقدر ما هي شمّاعةً أو قضيّة للاستثمار. والدليل على ذلك أن هناك أنظمة عربية سحقت شعوبها وتريد إقناعنا أنها مع القضية الفلسطينية. فمن يرى الخطأ ولا يشير إليه يكون مشاركاً فيه. فهناك مجموعة كبيرة كان لها إطلالة نقدية على كل هذه المرحلة ووسعنا الزاوية لنرى بشكل أوضح.
– بعد كل الأحداث والتطوّرات التي شهدتها المنطقة بأسرها، وبالأخص الساحة الفلسطينيّة، هل لا زلت مؤمناً بإمكانية تحقيق بعض مما ناضلت من أجله في بدايات مشوارك الفني والسياسي؟
الأديب السُّوري الرّاحل سعداللّه ونّوس، كان المرض يقضم خلاياه وقال “نحن محكومون بالأمل”، محمود درويش كانت عضلة قلبه تخونه وقال “على هذه الأرض ما يستحقّ الحياة”. فهل قالوها ليعزّوا أنفسهم بما تبقّى لهم من أيّام أم إيماناً بها؟ لا أدري، ولكن عندما يفقد أحدنا رغبته بالتغيير والبحث عن لحظات الفرح والحريّة فهذا هو الموت. أنا أهاب أن تتحوّل القضيّة الفلسطينيّة والشعب الفلسطيني كما الهنود الحمر في أمريكا، أن يصبحوا ذكرى وتراث. ولكن ما نراه من الشّعب الفلسطيني في غزّة وفي كلّ الأراضي المحتلّة يقول أن هذا الشّعب لا يزال مُتمسكاً بحقّه. فكلّا، مستمرين لكن بالكثير من الوجع والحسرة والمرارة.
– أيّ جانب يصنعه الفنّان الملتزم في صورة شعب معيّن يمتلك قضيّة يناضل من أجلها؟
الفنّان المُثقّف، المغنّي، المخرج، الفنان التشكيلي هم منصات للتعبير عن الرّوح الجماعيّة بما تختزن من مشاعر غضب وفرح … إذا سألتني هل من الممكن أن يشارك الفنّان بالتّحرير والوعي فهذا هو دوره، ولكن ليس هو من يصنع الثّورة. ولنشير إلى فكرة أساسيّة أنّ الالتزام دون القيمة الجماليّة ليس له معنى.
– نلت جائزة القدس للثقافة والإبداع عام 2006، من يمنحها؟ وما قيمتها بالنّسبة إليك؟
هذه الجائزة تمنحها مؤسّسة رسميّة فلسطينيّة، حيث تمّ اختياري لنيلها مع كاتب فلسطيني، وحضر أثناء تسليم الجائزة وزير الثّقافة إيهاب بسيسو وهو صديقي. وقد شعرت بالامتنان بيد أنّني لم أسعَ يوماً للحصول على جائزة أو درع بقدر ما أحبّ أن أعلّق على جداري صور الأحبّة.
– ما الرّسالة الّتي أردت توجيهها من خلال خوضك للانتخابات البلديّة منذ سنتين مع مجموعة بيروت مدينتي؟
هي مساهمة بإطلاق صوت جديد في الحياة البلديّة والمدنيّة والأهليّة في بيروت، والمساهمة في ترسيخ ثقافة المساءلة والمحاسبة، المساهمة في تحرير العمل البلدي والأهلي من السطوة السياسيّة والطائفيّة. كما أنّها مساهمة في فتح الباب أمام طاقات شبابيّة يمتلكون حلولاً أو اقتراحات حلول لقضايا مدنيّة تبدأ بالرصيف وتنتهي برمي النفايات مروراً برخص الأبنية العشوائيّة. هذا بالإضافة إلى أنّها محاولة لعدم قضم بحر بيروت، مثلاً نحن في مدينة ساحليّة ولا نرى الموج. هذه خطيئة كبرى بحقّ المدينة والبحر. لكلّ هذه الأسباب انتميت لمجموعة بيروت مدينتي. ترشحت ولكن شَرطي كان ألا يعلّق لي صورة لا على عامود ولا في شارع.
– إلى أي مدى تؤمن بوصول تلك المجموعات وقدرتها على التّغيير؟
علينا معرفة قيمة الوقت والصّبر لإكمال إيماننا، لأنّ التغيير يتطلّب وعي وأجيال بأي قضيّة كانت.
من يريد التغيير عاجلاً عليه أن “يأخذنا بحلمه”. فمن يريد التغيير عليه معرفة الطّبقة السياسيّة الحاكمة وأن يصبر كثيراً. كما أنّ التغيير في لبنان مرتبط بالتغيير بالمشرق كلّه، كما قال سمير قصير وأنا أؤمن بهذا القول.
– هل ابتعدت عن بيروت مدينتي؟
أبداً، ولكن لا يمكنني أن أُشاركهم دائماً، وفي نفس الوقت أن أكون مسرحيّاً للأطفال وأحضّر لألبومات جديدة، ومشاركات سينمائيّة وأنا أمتلك عائلة أيضاً.
– ولكنك لست عضواً في بيروت مدينتي حاليّاً؟
لا، لقد كنت مرشحاً فقط.
– انتُقدت بشدّة عندما عملت في تلفزيون المستقبل كونك اليساري والفنان الملتزم الذي اصطبغ بصبغة معينة، ما تعليقك؟
أعتقد أن اللغط الذي أُثير حينها سببه ثقافة التشكيك والتصنيف والتخوين الموجودة في البلد، والتي تعتبر من ليس معي فهو ضدّي، بل هو عدوّي. ووصلت الأمور إلى الحد الذي جعل أحدهم يقول لنا “تحسّسوا رقابكم”. اعتقد أن مجموعة الشباب والصبايا في تلفزيون المستقبل الذين سجّلوا إنجازاً كبيراً في العام 2000 في تصوير المحررين قبل غيرهم، وفي العام 2006 خلال عملية عناقيد الغضب، حيث كتب الشاعر طلال حيدر “قانا” وغنيّتها وعرضها تلفزيون المستقبل، الذي أنتج أغنية “والله وطلعناهم برّا” بعد التحرير. فلا يستطيع من فقد قضيته لأنه انحاز إلى المستبد القاتل، أن يخوّن غيره ويصنع منه قضيّة. فمن يتهمني بأنني حوّلت البندقيّة من كتفٍ إلى آخر، فليدُلني على البندقيّة وعلى الكتف الأول والكتف الثاني. فلا يجوز تخوين مؤسسة بكاملها كتلفزيون المستقبل مع كل هذا التنوّع السياسي والطائفي الذي كان يحتويه، والذي لم تشهده أي وسيلة إعلاميّة أخرى. علماً أنني لم أكن مُوظّفاً في التلفزيون، بل كنت أتعاقد معهم على القطعة الموسيقيّة. وردِّي على الذين يعطون أنفسهم الحق في تصنيف الناس هو في الأغنية رقم 3 من ألبومي الجديد والتي تحمل عنوان “مين عطاك الحق؟”.
– أحمد قعبور كرمز، ألا تشعر أنّك كنت قادراً على أن تكون في موقع خارج الاصطفاف السياسي الذي كان قائماً في البلد؟
هنالك لغطٌ في هذا الموضوع، فتلفزيون المستقبل احتوى أشخاصاً من “حزب الله” و “حركة أمل”. دعونا لا ننظر إلى المجموعات على أنّها نقيّة وصافية وذات توجهٍ واحد، أنا لست عضواً في تيّار المستقبل ولكنّي كنت من صنّاع ١٤ آذار، عندما كنّا أنا وزياد ماجد وسمير قصير ذاهبون باتجاه ١٤ آذار لوجهة معيّنة، هذه الوجهة تمّ تشويهها وتفخيخها بالطّائفيّة وتزييفها من المنظومة العربيّة يميناً ويساراً. وحقّ التّعبير الّذي حصل يوم ١٤ آذار كان مشهداً مجيداً، ومن يمكنه أن ينفي ذلك؟ إنّما إلى أين توجّه لاحقاً؟ توجّه لمدارك صعبة. ولكنّنا نعرف، في هذا البلد، أننا، بمشاركتنا مع هذه القوى الطّائفيّة السّياسيّة سنكون بمثابة أداةٍ لها. أنا أتحدّث عن يومٍ مجيد شعر النّاس خلاله بالاختناق، ومسلسل الاغتيالات يحصل بدون محاسبة كما أنّ على حاجز الخوف أن ينكسر. نزلوا وسبقوا أحزابهم وطوائفهم دون قائد ولكن ما حصل فيما بعد دفع سمير قصير لأن يكتب عن الثّورة في الثّورة انتقاداً لما آلت إليه الأمور في ١٤آذار. بمعنى آخر، أن العمل السّياسي – الاجتماعي عمل حيويّ وموقف جوهري ثابت موجود ولكن يجب أن نبني كل يومٍ موقفاً مُتجدّداً .لا يوجد شيء اسمه أنني أنتمي لـ ١٤ آذار وأنا مغمض العينين، لا بل يوجد موقفٌ متجدّدٌ دائماً.
– تقصد أنّه تمّ تفخيخه من الدّاخل؟
فُخّخ واستُهلك واستُثمر، بالإضافة إلى توظيفه للطوائف والأحزاب والزعامات. لكن هؤلاء شيء والنّاس الّذين نزلوا شيءٌ آخر.
– يعني 14 آذار كان ثورة وتحوّل إلى مجموعةٍ سياسيّة؟
لديّ موقف من كلمة ثورة، فجيلنا كان يعتبر أنّ الثّورة تتطلّب حزباً ضليعاً، قائدٌ ملهم ووصفة جاهزة في تاريخٍ معيّن، لكنّ هذه الاعتبارات انتهت. الثّورة عملٌ يوميّ، هي وصفة تتجدّد دائماً، قوّادها الّذين يعملون بالعلم والمعرفة والعمل الاجتماعي وليست لمن يأخذها إلى منحى التّصوير والتّباهي… بالإضافة إلى أنّه سرعان ما تحوّلت الثّورات الّتي حصلت في التّاريخ إلى سلطات، من الثّورة البلشفيّة، إلى الثّورة الإسلاميّة، وصولاً إلى الثّورة الفرنسيّة. لا توجد ثورة ابتدأت في يوم وانتهت في يوم، بل هي عمل دؤوبٌ ومستمرّ.
– ما رأيك في وضع البلد اليوم؟
نحن نعيش في بلد تنعكس فيه جميع الصّراعات الإقليميّة، تم تأسيسه على العنصر الطائفي، فأصبحت. الحل برأيي تخفيف اللهجة والصراخ، والعمل على المعرفة والتنمية. أشدِّد على تمكين الناس، لا أحب التحدّث بفوقيّة وقول تثقيف الناس ولكن لنخفّف شعارات كبرى كمن يريد استعادة فلسطين الآن خلال ثماني ساعات أو مثلما يريد أحد الفنانين أن يجعل البلد شيوعياً في أيّام. لنضع أرجلنا على الأرض ولا نطير، نعمل على التنمية والأرياف والحوار ونبحث عن المساحات المشتركة.
– هل تصنف نفسك علمانياً؟
نعم، طبعاً.
– في “تيار المجتمع المدني” العلمانية إحدى أهم مبادئنا، ولطالما اعتبر مؤسس التيار غريغوار حداد أنّ احترام الأديان يكون بفصلهم عن الدّولة والسلطة، سؤالي هو: هل تعتبر العلمانية حلاً؟
نعم، بالتأكيد هي الحلّ، ولكن علينا أن ندرس خطوات مواجهة هذا النظام الطائفي، عبر جرعات علمانيّة لا تسبب صدمة للناس. إنّه لمن الصعب الآن أن أقول لأمّي أنّني سأزوّج ابني في قبرص مع أنّني سأزوّجه في قبرص، أنا المتزوّج زواجاً تقليدياً أنوي الزّواج من زوجتي مُجدّداً زواجاً مدنيّاً لإرضاء نفسي، ليست البطولة رفع شعارات تسبب صدمة، البطولة الحقيقية أن تفهم عقل الناس وتراهن على الوقت.
– ما رأيك بخطوة شطب القيد أو إزالة الإشارة إلى الطائفة من سجلاّت النفوس؟
طبعاً هذا مطلب طبيعي في مرحلة من المراحل كانوا يضعون فقط الديانة وللتأكيد أكثر على الصبغة المذهبية والطائفية أصبحوا يضعون الديانة والمذهب. هذا مُهين، فعلى هويتي بدلاً من التقدم في مجال عملي وكفاءاتي، أتقدم بحسب طائفتي. هذه إهانة للمواطنة وللوطن لذا أنا معه مئة بالمئة، وإذا لم يسمع أحد الان سيسمعون لاحقاً.
– هل ترجمت العلمانيّة من خلال مسيرتك الفنيّة؟
طبعاً، مثلاً بالعام 2010 استعدت عشرة أغاني لعمر الزّعني، الشاعر العربي والموسيقي اللبناني، كان يملك حسّاً نقدياً، وقد حذّرَنا من الطائفيّة قبل الشيوعيين والعلمانيين. وبالتأكيد هو على الموقف اللاطائفي قال عام 1920: “ما بهوى حد، ما بكره حدّ، ما عندي فرق بين جمعة وحد”. بالإضافة إلى كونك في محيط وأصدقاء متلوّنين طائفيّاً بالرّغم من أنّني لا أحب هذه الكلمة، أنت تمارس انفتاحك وتأكّد على أنّك “مش برغي بالمكنة المذهبيّة والطائفيّة”. وكما يقول محمود درويش كلما تخون العشيرة تقترب نحو الوطن. إذاً، فهناك خيانات مستحبّة كأن تخون العصبيّة الصغيرة لتنتمي إلى دائرة أكبر.
– ناضلت كثيراً من أجل القضايا العربيّة، بأيّ لون تلوّن الخارطة العربيّة؟ (هل يئست أم بعد)؟
طبعاً، أنا متوغّل باليأس ولكن أحاول أن أتعايش مع يأسي وأحوله إلى طاقة إيجابيّة عن طريق التلحين للأطفال، أو أن ألجأ إلى مساحات تحتوي على الحب والفرح.
– ما جديد أحمد قعبور؟
في الحقيقة، عدا عن ألبوم “لما تغيبي”، يوجد مسرحية للأطفال منذ أقل من سنة، اسمها “يا قمر ضوي عالناس” مع مسرح الدمى اللبناني. عرضت في أكثر من عاصمة وآخر عرض كان في تونس، وطبعاً عُرضت في بيروت. ولا زلت كلما أتقدم في العمر أحاول استعادة طفولتي. كما أنني عملت مع ناجي بيضون على نماذج لمجموعة تعليمية، وهي تحويل قواعد اللغة العربية إلى أغاني، ونحن بانتظار تمويل لهذا المشروع.
“لما تغيبي” أيضاً مشروع انطلق منذ قرابة السنة والنصف، بدايته كانت بـ 10 أغاني، أصبح عددها الآن 36 أغنية، لم تكفها أسطوانة واحدة، فكرت بدمجهم في “سي دي” مزدوج ولكنه مكلف على الناس، فاخترت ثماني عشرة أغنية تحت عنوان “لما تغيبي”، وبعد حوالي السبعة أشهر سيصدر ألبوم جديد اسمه “تفاريح” ستتفاجؤون بأنّه موسيقى للرّقص. أما بالنّسبة لـ “لمّا تغيبي” فيطغى وجود المرأة، الأطفال، والأب، بالإضافة إلى صرخة بوجه المستبد.