من هو غريغوار حداد؟

0
وُلد نخله أمين حدّاد في قرية عين الرمانة الواقعة في قضاء عاليه يوم 25 أيلول من العام 1924، ونشأ في كنف عائلة مسيحيّة مُختلطة، فوالده بروتستانتي مِن أصل أرثوذكسي، ووالدته مَتِيلد نوفل من طائفة الروم الكاثوليك، وعائلة والده مُتحدِّرة من قرية عبيه في قضاء عاليه. 
تلقى نخله حدّاد دروسه الابتدائيّة في “مدرسة سوق الغرب العالية”، حيث كان والده يُدَرِّس اللغة العربية بين العامين 1934 و1936. ونال شهادة السرتيفيكا في العام 1937 من “مدرسة النهضة” في قرية بمكين التي يُشرف عليها آباء الرهبانية الباسيلية الحلبية للروم الكاثوليك التابعون لدير الشير الكائن في نفس هذه القرية القريبة من مكان سكنه.
شهدت هذه المدرسة بداية ظهور الملامح الفكريّة الأولى لنخله، الفتى الصادق في إيمانه، فإذ به يَندفع في خياره الديني، فيعتنق الكاثوليكية في عمرٍ صغير.
ومع مُتابعة دروسه التكميلية والثانوية بين عامي 1937 و1943 في المدرسة الإكليركية الشرقية، بدأ مساره يتبلور أكثر فأكثر، وتحديداً بعد نيله شهادة البكالوريا – القسم الثاني، بمتابعة دراسة الفلسفة واللاهوت بين العامين 1943 و1949 في المدرسة الإكليركية العليا التابعة للآباء اليسوعيين في بيروت.
تأثر بكتابات بيار تيّار دو شاردان الكاهن اليسوعي والفيلسةف والجيولوجي الفرنسي.

رُسم حدّاد شماساً في العام 1948، ثم كاهناً على يد مُطران بيروت وجبيل وتوابعهما للروم الكاثوليك فيليبس نبعه، وذلك في العام 1949، فانطلق في رسالته الكهنوتية باسمٍ جديدٍ هو “غريغوار” (“غريغوريوس” على الهوية)، وقد اختار هذا الاسم تَيَمُّناً بالبطريرك غريغوريوس الرابع حدّاد (1859- 1928)، بطريرك أنطاكية وسائر المشرق للروم الأرثوذكس، ابن بلدة عبيه (مسقط رأس والد نخله). وقد كان نخله ووالده مُتأثرَين جداً بمسيرة البطريرك الوطني الذي لم يُفرِّق بين المسيحيين والدروز، والبطريرك العروبي الذي فتحَ أبواب المقر البطريركي في دمشق أمام المُحتاجين مِن كل الطوائف وَوَزّع عليهم، خلال المَجاعة في الحرب العالمية الأولى، خيرات الكنيسة.

عُيِّن غريغوار حدّاد لاحقاً أمين سر المطران فيليبس نبعه في مطرانية بيروت للروم الكاثوليك بين العامين 1949 و1951، إلى أن عُيِّن في العام 1951 نائباً عاماً على أبرشية بيروت للروم الكاثوليك.

انتَخَب سينودس الروم الملكيين الكاثوليك غريغوار حدّاد أسقفاً معاوناً لأبرشية بيروت وجبيل وتوابعهما، بناءً على اقتراح المطران فيليبس نبعه، فقام بالمهام الموكلة إليه كمعاون له.

وفي 5 آب من العام 1965 رُسم حدّاد مُطراناً على يد البطريرك مكسيموس الرابع صايغ.

ولأنّ حدّاد نَذَر نفسه لخدمة الناس والسير على درب المسيح في تواضعه وزهده وتقشّفه، وقّع، مع عدد من المطارنة، الوثيقة التي صدرت في الدورة الأخيرة للمجمع الفاتيكاني الثاني المُنعقد في روما في العام 1965 والتي تعهدُوا بموجبها بمُمارسة الفقر في حياتهم الشخصية.

تولّى غريغوار حدّاد مهام مطران مُساعد لمطران بيروت وجبيل وتوابعهما للروم الكاثوليك في العام 1965، ثمّ أصبح في العام 1967 المدير البطريركي على أبرشيّة بيروت، إثر وفاة المطران فيليبس نبعه في أيلول من العام 1967. وفي 13 تشرين الأول من العام 1968، انتُخب، بإجماع أعضاء سينودس الروم الملكيين، مُطراناً أصيلاً لأبرشية بيروت وجبيل وتوابعهما للروم الكاثوليك. ولدى تسَلُّمِه هذه الابرشيّة أطلق حدّاد، في كلمة ألقاها بهذه المناسبة، سلسلة مواقف غير تقليديّة.

تبين لحدّاد، عند استلامه مسؤولية رعاية هذه الأبرشية، وُجُود فرُوقات كبيرة بين مداخيل الكهنة، تتراوح ما بين 150 ليرة و1500 ليرة شهرياً، بحسب اختلاف المراكز الراعوية، فوضَعَ تنظيماً مالياً جديداً تشترك في تمويله العائلات بحسب إمكانات كل منها، لتُصبِح بموجبه جميع الخدمات الدينية، من عمادات وزواجات وجنازات، مَجّانية، على أن يتقاضى كل من المطران والكهنة رواتب مُتساوية من الصندوق العام. وكذلك طُبقت مبادئ العدالة الاجتماعية على العمال العلمانيين المُشتغلين في الأبرشيات. وهكذا تمكّنت العائلات التي كانت تعمل لسنوات طويلة في أراضي الوقف من أن تستملك تلك الأراضي. وعلى هذا الأساس سار العمل في الأبرشيّة.

كما أقام المطران حدّاد الحوار ونشّطهُ على كل المستويات، وعزّز المُشاركة في اتخاذ القرارات وتقديم الاقتراحات، فألّف مجلس الكهنة، والمجلس الراعوي الذي يضم عناصر من العلمانيين والرهبان والراهبات والكهنة ومُمثلي المجالس الراعوية، كما أسس لجنة الطقوس الكنسيّة ولجنة الوعظ واللجنة المدرسية واللجنة الاجتماعية.

توتّرت علاقة البطريرك مكسيموس الخامس حكيم، بطريرك الروم الكاثوليك آنذاك، بالمطران غريغوار حدّاد، بعد أن طلب البطريرك حكيم من حدّاد، أن تُودَع في خزينة البطريركية قيمة التعويضات التي أعطتها الدولة للمطرانيّة لدى استملاك أراضي مدافن الزيتونة العائدة لكاتدرائية بيروت والواقعة في منطقة خليج مار جرجس، فرفض حدّاد هذا الأمر رفضاً قاطعاً، مُعتبراً هذه الأموال من حق فقراء بيروت، ويجب أن تُستثمر في مشاريع لمصلحتهم.

أسس غريغوار حدّاد مع بولس الخوري وجيروم شاهين مجلة “آفاق”، التي ظهر عَدَدُها الأول في 15 كانون الثاني من العام 1974، وذلك بعد أن اقترح عليه بولس الخوري في العام 1973 المُشاركة في إصدارها، وطلب مِن حدّاد أن يُساهم في كتابة مقالات فيها. وقد تولى جيروم شاهين رئاسة تحرير المجلة.

نشر غريغوار حدّاد أولى مقالاته في العدد الأول من هذه المجلة، تحت عنوان: “هل البحث الديني الجذري كُفر وشك أم هو في منطق الإنجيل؟”، ثم ألحقها بمقالات أخرى عن تحرير المسيح من المسيحيين والمسيحية والكنيسة المؤسسة، وتحرير الإنسان من العبوديات.

مع صدور العدد السادس من مجلة “آفاق”، بدأت ملامح الأزمة تظهر في كنيسة الروم الكاثوليك، وموضوعها المقالات التي كتبها المطران غريغوار حدّاد في المجلة.

وجّهَت السلطة الكنسية للروم الكاثوليك إلى المطران غريغوار حدّاد أصابع الاتهام بأنه قد خرج عن المعتقد الكاثوليكي القويم، فاعتبر البطريرك مكسيموس الخامس حكيم أن كتابات حدّاد في “آفاق” تتناقض مع العقيدة الكاثوليكية، ودعا إلى عقد سينودس لمطارنة الروم الكاثوليك للنظر في “قضية غريغوار حدّاد”.

انعقدت الدورة الاستثنائية من السينودس من 30 نيسان إلى 2 أيار من العام 1974 في عين تراز، برئاسة البطريرك حكيم وحضور أساقفة الطائفة ورؤساء الرهبانيات الكاثوليكية. وكان البطريرك قد طلب دراسات حول مقالات “آفاق”، ,لم يتخذ السينودس أي قرار بحق المطران حدّاد، إذ لم يتوصّل إلى تكوين أي اعتقاد يشك في صحة عقيدته.

أعادت دورة السينودس العادية بين 19 و24 آب من العام  1974 في عين تراز، بحث قضية المطران حدّاد وِرُفع ملف المطران حدّاد إلى الفاتيكان لدرسه والحكم فيه.

بدأت أصوات تأييد واسعة لحدّاد تظهر رفضاً لهذا القرار، منها تجمُّع مئات المواطنين في مطرانية الروم الكاثوليك في بيروت يوم الأحد في 25 آب من العام 1974.

جرى كف يد حداد عن أبرشيته في 10 أيلول من العام 1974.

وكردّة فعل على هذا القرار، حصل تجمع لعدد كبير من أبناء الطائفة في مطرانية بيروت في 13 تشرين الأول من العام 1974، مُعلنين تأييدهم للمطران حدّاد.

وفي 9 آذار من العام 1975، انطلقت مسيرة إلى مقر البطريركية لتطالب بإعادة حدّاد إلى أبرشيته، ففوجئت بأبواب المقر موصدة، ثم تجمّع أكثر من ألف شخص في باحة أبرشية بيروت رغم قرار البطريركية رفض التجمع.

استدعى مجمع العقيدة والإيمان المطران غريغوار حدّاد إلى روما وتباحث معه بشأن كتاباته، ورأى أنها لا تخرج عن العقيدة الكاثوليكية المستقيمة.

في شهر آب من العام 1975، وبعد أن تُرك أمر البت ببقاء حدّاد في الأبرشية أو عدمه إلى السينودس والبطريرك، عمد سينودس الروم الكاثوليك، إدارياً، إلى نقل المطران حدّاد من أبرشية بيروت إلى أبرشية أضَنَا في تركيا، أي اعتبارهُ مُطراناً شرَفياً على أبرشية لم تعد موجودة فعلاً.

ظل حدّاد، بعد العام 1975، أُسقفا يُشارك في سينودس الأساقفة. وقد أوكلتهُ كنيسته في مهمتين جديدتين خلال الحرب، الأولى، رئاسة أبرشية بعلبك في العام 1977، كبديل عن المطران الياس الزغبي لمدة ستة أشهر، والثانية، رئاسة أبرشية صور في العام 1988 أثناء شغورها إثر وفاة مطران صور، فحلّ فيها على فترة سنة وثلاثة أشهر.

انطلق غريغوار حدّاد في وضع خارطة طريق للتحاور الإسلامي المسيحي في العالم العربي، وسعى إلى تفعيل الحوار بين هاتين الديانتين.

اعتبر حدّاد أن الاتجاه المُشترك لنظر الديانتين، يجب أن يكون الله والإنسان. لذا يقول: “إنّ الله الخالق والعادل والمُحب، لا يمكنه إلا أن يكون على مسافة واحدة من جميع الناس ومن جميع الديانات”. ويُضيف: “يمكن تصوير العلاقة بين الأديان على شكل دائرة: محور الدائرة هو الله. وجميع الأديان هي الأشعة المُنطلقة من المحور. فالأشعة لا تلتقي بينها، وكأنها خطوط مُتوازية، ولكنها تلتقي في نقطة الدائرة أو محورها. ولكي تلتقي يجب أن تتقدم كل ديانة إلى المحور، أي يجب أن تميّز كل ديانة بين ما هو مطلق وما هو نسبيّ، والمطلق هو الله: أن يكون هو الأول والآخر والمحور لكل مُؤمن ولكل جماعة مُؤمنة”.

حاول حدّاد أيضاً، وهو المُؤمن بضرورة العمل لأجل التضامن بين دول العالم العربي، توضيح الفرق بين الاسلام والعروبة، فقال: “إن الإسلام قيمة دينية إنسانية بحد ذاته، وليس بحاجة إلى العروبة لإضفاء قيمة عليه أو لزيادة قيمته. وإنّ العروبة قيمة دنيوية إنسانية بحد ذاتها، أسهم فيها ويُسهم حالياً المسلمون والمسيحيون وغير المؤمنين بالله، وليست حكراً على أحد”.

تعرّف المطران حدّاد إلى الإمام موسى الصدر في أوائل الستينيات، وزارَهُ مع وفد من الحركة الاجتماعيّة وأخبروه عن نشاطات الحركة، وسألوه عما إذا كان يرغب بالتعاون، فرحّب بالوفد وأبدى رغبته بذلك، وأصبح عضواً في المجلس المركزي للحركة الاجتماعية مع حدّاد، كما كان له دور مناطقي كمُشرف على المُتطوعين في الجنوب، وكان مسؤول لجنة مُتخصصة هي اللجنة القانونية في الحركة. وقد نظمت الحركة الاجتماعية مُؤتمراً في الجامعة الأميركية، وكان هو من حاضر مُمثلا إياها في هذا المؤتمر. كل ذلك قبل أنْ يصبح رئيس “المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى”.

اجتمع “المطران” و”الإمام” على التسامح والتعاون على محبة الإنسان، واستمرّ هذا التعاون بعد تغييب الإمام موسى الصدر مع “مؤسسات الإمام الصدر” التي أدارتها شقيقته السيدة رباب الصدر.

وقد أسهم كل من المطران غريغوار حدّاد والإمام موسى الصدر، إلى جانب المطران جورج خضر والأب يواكيم مبارك والشيخ صبحي الصالح وغيرهم في إطلاق الحوار الإسلامي المسيحي في لبنان، وكانوا أوائل الذين وقّعوا بياناً في الثامن من تموز من العام 1965 في إطار المحاضرات التي نظمتها “الندوة اللبنانية” عن “المسيحية والإسلام في لبنان”، الذي فتح الباب للحوار الإسلامي المسيحي في لبنان لما تضمنه من تأكيد للثوابت المشتركة في المسيحية والإسلام. يومها، شدّد البيان على “تلاقي الديانتين في إيمانهما بالله الواحد وبقيامهما معاً على تعزيز قيم روحية ومبادئ خلقية مشتركة تصون كرامة الإنسان وتعلن حقه في الحياة الفضلى، وتنهض بالأرض وما عليها في محبة وسلام ووئام”. كذلك، أعلنوا “أنّهم على يقين بأنّ لبنان هو الموطن المُختار لمثل هذا الحوار المسيحي الإسلامي، وبأنه حين يجدد وعيه بتعاليم هاتين الرسالتين، يسهم في تجديد طاقة الإنسان الروحية وصونها”.

في محاضرته الشهيرة بعنوان “الجوامع المشتركة اللازمة لتأسيس حوار إسلامي – مسيحي” التي ألقاها في ندوة ليبيا في 2 شباط من العام 1976، والتي كانت بإشراف الفاتيكان والدولة الليبية، اعتبر المطران غريغوار حدّاد أمام المؤتمرين من الديانتين، أن لا فرق بين “نؤمن بإله واحد” (المسيحية) و”لا إله إلا الله” (الإسلامية)، وأن الأدعية الوحدوية في الديانتين لا يتميز بعضها عن بعض سوى بالصيغ اللغوية للمنشأ الثقافي.

واقترح حدّاد أن يتفق المُشتركُون على صيغة إيمانية مُشتركة، “كحد أدنى” من اللقاء الأكيد بين الجانبين، عرّفها بالشهادات الخمس وهي:

– نشهد أن لا إله إلا الله لا شريك له ولا كمثله شيء.

– نشهد أن الله أكبر، أكبر من كل ما سواه، لا سيما الأصنام والآلهة التي يخترعها عالم اليوم.

– نشهد أن الإنسان صورة الله، خليقة الله الكبرى، وخليفة الله في الأرض، والغاية التي من أجلها خلق الكون وسخّر كل ما فيه، بل من أجله كان الأنبياء والرسل، وإن كل إيمان بالله لا يصبح إيماناً بالإنسان والتزاماً بقضاياه هو إيمان ناقص.

– نشهد أن المسيح، عيسى ابن مريم، كلمة الله ورسولٌ منه إلى الإنسانية جمعاء.

– نشهد أن محمداً رسول الله ورسولٌ منه إلى الإنسانية جمعاء.

وقد تبنى هذا المؤتمر، كما يقول حدّاد، اثنتين من هذه الشهادات. ويُضيف، “لقد صدرت أولى توصيات المؤتمر بما معناه: أولاً، أننا نؤمن جميعاً بإله واحد. ثانياً، أننا نكرِّم أنبياء بعضنا البعض”.

أسس غريغوار حداد “الحركة الاجتماعيّة” في العام 1957، وأطلق عليها تسمية مُنظمة غير حكومية، طوعيّة، لا حزبيّة، لا طائفيّة، لا خيرية، وحركة عمل جماعي علمي تلتزم التنمية الاجتماعية الاقتصادية، وخاضعة للعمل التشاركي بين أعضائها.

غاية الحركة الاجتماعية هي الإنسان، والوصول به فرداً وجماعات إلى المجتمع الأكثر إنسانية وأنسنة، والعمل على تغيير ما في المجتمع من تخلف وظلم واستغلال وتناقضات.

تسعى الحركة الاجتماعيّة أيضاً إلى تفعيل دور المواطن وحَثِّه على بناء سُبُل تضامن جديدة. ولا تكتفي بالتدخّل المباشر إلى جانب المُستفيدين من برامجها وتوعيتهم على حقوقهم كي يُطالبوا بها، بل تعمل على تشجيع جيل الشباب على العمل التطوعي في القضايا الاجتماعيّة والاقتصاديّة، وتطالب الجهات المسؤولة بتطوير سياسات تأخذ بعين الاعتبار الحاجات والحقوق الأساسيّة للفئات الأكثر تهميشاً.

ورغم أنها تأسست في العام 1957، غير أنّ الحركة الاجتماعيّة بدأت نشاطها الميداني في العام 1959، وحازت اعترافاً رسمياً بها من الدولة في العام 1961.

زار غريغوار حدّاد برفقة وفد من الحركة الاجتماعية، في العام 1960، فؤاد شهاب، رئيس الجمهورية اللبنانية حينها، وقام تعاونٌ بينهما على إعداد دراسة علميّة، أنجزتها الحركة الاجتماعيّة، حول وضع المستشفيات الحكومية والخاصة التي تربطها عقود بوزارة الصحة. وجرى التعاون أيضاً في مجال توزيع الأدوية، حيث أُنشئت لجنة تنسيق، بطلب من الرئيس شهاب، بين وزارة الصحة وبين المستوصفات والصيدلية المركزية، أدارها فريق مُتخصص من الحركة الاجتماعية.

وفي إطار محاولاته بناء دولة المؤسّسات، استدعى الرئيس شهاب، في العام 1961، الكاهن والاقتصادي الفرنسي الأب لوبريه وبعثته للقيام بعمليّة مسح شامل للأوضاع الاقتصاديّة والاجتماعيّة ولوضع خطة تنمية اقتصادية – اجتماعية وطنية شاملة، استناداً إلى معرفة حقيقية بمشكلات وحاجات المواطن وموارد الدولة وإلى دراسات ميدانية.

دعم غريغوار حدّاد العمل المشترك القائم بين الدولة والأب لوبريه، ودعوة هذا الأخير إلى إنشاء اقتصاد ذي وجه انساني قادر على توفير التنمية الشاملة المتكاملة وإعادة توزيع الثروة بهدف تقليص فجوة اللامساواة على الصعيدين الاجتماعي والمناطقي.

أتى الأب لوبريه بِشعار “العمل من أجل تنمية الإنسان، كل إنسان، وكل الإنسان” إلى لبنان، فتلقّفه غريغوار حدّاد، ونادى به ومارسه في تجربته العامة المُجتمعيّة في لبنان، وأرساه أيضاً في الحركة الاجتماعية وفي تيار المجتمع المدني.

في العام 1959، زار الأب بيار Abbé Pierre لبنان، وهو الكاهن الكاثوليكي الفرنسي الذي أسس في العام 1949 “حركة عماوس – الحركة العلمانية الخيرية لمساعدة الفقراء والمستبعدين واللاجئين”. فنُظمت له عدة محاضرات. وقد تعرّف إليه غريغوار حدّاد فجمعهما إيمان مسيحي عميق والتزام اجتماعي وإنساني لخدمة الفقراء. أثناء هذه الزيارة، دعاه حدّاد إلى لقاء مع مُتطوعي الحركة الاجتماعية، فأعجب المُشاركون بأفكاره وبالمشاريع التي أطلقها في فرنسا، واقترحوا إنشاء فرع لحركة عماوس في لبنان. وهذا ما حصل بالفعل، فقد أسس غريغوار حدّاد ورفاقه في العام 1960 جمعية “واحة الرجاء”، وبدأت، كما حركة “عماوس” الفرنسية، تجميع كميّاتٍ من الورق والكرتون وقِطع الحديد المُستعملة لتبيعها إلى مصانع تُعيد تدويرها وبيعها. وأتاحت المبالغ التي تمّ تحصيلها من هذا العمل التطوعي إيواء وإطعام عدد كبير من المُشرَّدين، وإعادة تأهيل الأشخاص المُهمَّشين والمسجونين السابقين.

مع بداية الحرب الأهلية، وخلال حرب السنتين في لبنان (1975- 1976)، ساهم حدّاد في الإدارة المدنية المشتركة في قضاء عاليه، بِطلب من كمال جنبلاط. وبعدها، ساهم في إنجاح عمل “هيئة إنماء قضاء عاليه” بين العامين 1979 و1982، وهي الهيئة التي أَنشأت في كل بلدة من بلدات قضاء عاليه السبعين “لجنة تنمية محلية”، قامت بمشاريع مُتنوِّعة، كحفر الآبار الأرتوازية وشق الطرقات الزراعية وغيرها.

توطّدت علاقة المطران حدّاد بكمال جنبلاط في العام 1975، وهي علاقة بُنيت على المحبة والاحترام المُتبادلين.

في العام 1980، ساهم حدّاد مع الحركة الاجتماعية بإنشاء “تجمع الهيئات التطوعية الأهلية في لبنان” الذي ضمّ 14 جمعية لبنانية من الجمعيات الكبرى في لبنان (مجلس كنائس الشرق الاوسط – كاريتاس لبنان- مؤسسات الإمام الصدر- جمعية المقاصد الإسلامية – مؤسسة الحريري – مؤسسات كمال جنبلاط – النجدة الشعبية – مؤسسة عامل – الحركة الاجتماعية – تنظيم الأسرة إلخ…)، والذي عمل على حملات التلقيح ضد الشلل وباقي الأوبئة (مع وزارة الصحة واليونسف)، وتأمين الكشف الصحي والصحة المدرسية للصفوف الابتدائية مع وزارتي التربية والصحة، ومؤتمرات التنمية في البقاع والشمال والجنوب، ونشرة باسم “التنسيقات الاجتماعية الانمائية”.

آمنَ غريغوار حدّاد بحق الفلسطينيين اللاجئين في استعادة وطنهم. “إنها قضية عدالة دولية” يقول. وآمن بواجب التضامن مع الشعب الفلسطيني “لأن فلسطين هي جزء من محيطنا، ولأن اللاجئين الفلسطينيين هم “قريبنا” الأكثر مباشرة، وهذا القريب يتألم وله حق أولوية في حُبِّنا”. ولأجل هذا الفلسطيني ساهم حدّاد في إنشاء “المؤتمر المسيحي لأجل فلسطين” الذي هدف إلى نصرة القضيّة الفلسطينية.

في ظل المواجهات بين الجيش اللبناني والمنظمات الفلسطينية في العام 1973، خرق حدّاد نظام منع التجول الذي فرضهُ الجيش اللبناني خلال المواجهات حول مُخيمات اللاجئين التي كانت تحيط بالعاصمة، وذهب في سيارة إسعاف إلى مستشفى القدس الفلسطيني من أجل تقديم الطعام للفلسطينيين.

غاب حدّاد عن العمل الميداني من العام 1992 وحتى مطلع العام 1998، وهي أعوام اعتكافه وتفرُّغه للتفكير والتأمل والصلاة والكتابة في عزلة تامة في دير في فاريا، ثم في دير آخر في اللقلوق، وأخيراً في بطريركية الروم الكاثوليك في الربوة.

جمع حدّاد في هذه الفترة أفكاره حول المبادئ العامة لمفهوم العلمانية الشاملة وأطلقها في كتابه “العلمانية الشاملة”.

كما كتب مُؤلفه “البابا ولبنان”، والذي ضمّنهُ قراءته نتائج وأبعاد وانعكاسات زيارة البابا يوحنا بولس الثاني إلى لبنان ومسيرة السينودس من أجل لبنان الذي أطلق دعوته البابا في العام 1991.

وكتب أيضاً كتابه “القواعد العربية، منهجيّة جديدة”. كما وضع الصيغة النهائية لكتابه “علم العروض، تفعيلات جديدة”.

زادت قناعة غريغوار حدّاد، في العام 1998، بأن تفعيل الثورة الفكرية في أذهان اللبنانيين تحتاج أن يترافق العمل المُجتمعي الذي أطلقه في سنوات سابقة، مع عمل سياسي مُنظم يحمل عناصر تغيير المجتمع وتطويره، وأهمها “العلمانية الشاملة”.

في ظل عالم يملؤه العنف والإرهاب والإجرام، رفع غريغوار حدّاد لواء اللاعنف، ودافع عنه، وحاول إيجاد وسائل تطبيقية له، مُستعيناً بالتجارب التاريخيّة العالمية في هذا الإطار، والتي أعجب بكثير منها، وعلى رأسها تجربة المهاتما غاندي في الهند، مُطلِق حركة المقاومة السلمية أو فلسفة اللاعنف “الساتياغراها Satyagraha” والتي تعني “التمسك بالحقيقة”، والتي اعتَمَدَت وسائل المقاطعة والاعتصام والعصيان المدني.

عاد غريغوار حدّاد من عزلته بمشروع حركة جديدة حملت تطلعاته ورُؤيته للمرحلة الثالثة من مسيرته النضالية بفحواها الجديد السياسي.

في العام 1998، انطلقت سلسلة من الاجتماعات بين مجموعة من المُفكرين والناشطين العلمانيين في محل إقامة غريغوار حدّاد في بطريركية الروم الكاثوليك في الربوة، كان موضوعها الإعداد لحركة سياسية لها مواصفات جديدة على صعيد المبادئ الأساسية، والقيم والمقاييس، والأهداف الاستراتيجية، والخيارات المرحلية، والمشاريع العملية.

بنتيجة هذه الاجتماعات، تكوّنَت، في العام 1999، هيئة تأسيسية تدارست وثائق أساسية، وأطلقتها في كتيبات نُشرت في نفس ذلك العام تحت عنوان “الوثائق الفكرية لتيار المجتمع المدني”.

بدأت ملامح هذا التيار تتوضح كحركة علمانية تمتد على جميع الأراضي اللبنانية بلا تفرقة مناطقية، أو عرقية، أو طائفية. وحملت الوثائق الفكريّة لتيار المجتمع المدني ثمرة ما تبناه غريغوار حدّاد ومجموعة من المُفكرين والناشطين المُحيطين به، في مطلع القرن الحادي والعشرين، من قيم سياسيّة ومدنيّة يمكن أن تُساهم في تطوير المجتمع السياسي اللبناني الخارج من آتون حرب أهلية، والغارق في نظام طائفي مُترهِّل.

تبنّت هذه الوثائق، في ما تبنته، طرح غريغوار حدّاد في “العلمانية الشاملة” ورؤيته لـ “اللاعنف كمفهوم وكطاقة تغييرية”.

يسعى تيار المجتمع المدني إلى التطوير والتغيير على كل الصعد بنشر الثقافة وتعميم الوعي، انطلاقاً من مبادئه (وهي التي سبق أن عرضنا بعضها في العنوان الأول من هذا الفصل الثالث)، أي العَلمانية، والتشارك، والديمقراطية، والتنمية الشاملة المتكاملة. بالإضافة إلى مبادئ أخرى

في العام 2002، استقبل الأب إيلي قنبر، وهو الخوري في أبرشيّة بيروت وجبيل للروم الكاثوليك، في برنامجٍ من إعداده وتقديمه حمل اسم “بلا عنوان” على قناة “تيلي لوميير Télé Lumière”، سلسلة حلقات مع المطران غريغوار حدّاد.

ترافق عرض حلقات هذا البرنامج مع انزعاج البعض من عودة حدّاد ليعرض أفكاره.

في 14/6/2002، تَجَمُّع عدد من الشبان قرب مدخل مبنى القناة، وفور تَرَجُّلِ حداد للدخول إلى المبنى، عاجله شابٌ، أمام عدسة قناة “المؤسسة اللبنانية للإرسال LBCI”، بِلَكْمَة على العنق وصفعة على الوجه، فطرَحَهُ أرضاً.

عادت قضية غريغوار حدّاد يومها إلى الواجهة، فتحلّق حوله بعض المؤمنين بخطه الفكري، وبعض آخر من المُستنكرين من سياسيين ووُزراء ونُواب، توافدوا إلى محل إقامته في بطريركية الروم الكاثوليك في الربوة للتضامن معه مساء ذلك اليوم.

ساهم غريغوار حداد وتيار المجتمع المدني في انعقاد مؤتمر العلمانيين يومي 5 و6 أيار من العام 2006 في قصر الأونسكو بمشاركة حوالي 600 مؤمن بالعلمانيّة. وقد حرص مؤتمر العلمانيين هذا على طرح مفهوم العلمانية الشاملة غير المتعارضة مع الإيمان، لتجنيب العلمانية تهمة الزندقة والإلحاد من جهة، حيث طرحها كنظرة شاملة للعالم (المجتمع والإنسان والفكر) تؤكد استقلالية العالم بكل مقوماته وأبعاده وقيمه وسلوكه تجاه جميع المذاهب الدينية أو اللادينية والفلسفات على أنواعها. ودعا المؤتمر للنضال والعمل الجدّي على القضايا التي تطرحها العلمانية، وصولاً إلى مجتمع تسوده الوحدة والمُساواة والعدالة والحرية والسلام والديمقراطية، باعتبار ذلك، الطريق الأصلح لنشوء وطن يملك قاعدة قانونية واحدة مُوَحّدة استناداً إلى المساواة والحرّية وشرعة حقوق الإنسان.

شارك غريغوار حداد في إحدى مظاهرات “حراك اسقاط النظام الطائفي” في 6/3/2011، هذا الحراك الذي شكّل بمظاهراته وتحركاته، تجربةً فريدةً تميزت بحشدها الجماهيري وبِحَملِها بشكلٍ واضحٍ لواء العلمانيّة.

قبل منتصف ليل 23 كانون الأول من العام 2015 بقليل، توفي المطران غريغوار حداد، فنظّم تيار المجتمع المدني وقفة مساء يوم السبت في 26/12/2015 أمام مستشفى “أوتيل ديو” في منطقة الأشرفية في بيروت، حيث نُقل جثمان غريغوار حدّاد بعد وفاته، وأضاء المُشاركون والمُشاركات الشموع هناك كتحية للراحل، وارتفعت صُوَرُه التي كُتب عليها كلمة “وداعاً”، وعاهده الجميع مُتابعة النضال في سبيل إرساء المبادئ والقيم الإنسانيّة التي جمعتهم به.

كما أطلق تيار المجتمع المدني يوم الأحد في 27/12/2015 مسيرة الوفاء والوداع الأخير لحدّاد تحت عنوان “وعدنا إلك…”، من أمام مقره في بدارو باتجاه وسط بيروت، حيث أُقيم جنّاز وصلاة لراحة نفسه في كاتدرائية مار الياس للروم الكاثوليك في ساحة النجمة. وقد حمل المُشاركون والمُشاركات في المسيرة لافتات كتب عليها: “وعدنا إلك نربِّي ولادنا على العَلمانية”… “وعدنا إلك نبقى لاعنفيين”… “وعدنا إلك نسعى لاستقلالية الدين عن الدولة”، وغيرها… هذا ومرَّت المسيرة في منطقة المتحف حيث التقت نعش حدّاد، وسارت وراءهُ حتى ساحة الشهداء، حيث حمل الشباب النعش على الأكتاف ودخلُوا به ساحة النجمة حيث الكاتدرائية التي استقبلت جنّازه.

وفي قداس ذكرى الأربعين على رحيله، الذي دعت إليه بلدية عين الرمانة في قضاء عاليه، في كانون الثاني من العام 2016 في كنيسة القديس جاورجيوس – دير الشير في بمكين، أعلن الأستاذ ريمون خلف، رئيس هذه البلدية التي وُلِدَ فيها حدّاد وعاش شبابه، إطلاق اسم “شارع المطران غريغوار حدّاد” على الشارع العام للبلدة، تخليداً لعطاءات حدّاد الإنسانيّة.

صدر لغريغوار حدّاد عدة كتب ومؤلفات ذكرناها في صفحة “مؤلفات غريغوار حداد”.

* سيرة غريغوار حداد: من كتاب “غريغوار حداد – مطران الزمن القادم – تأليف باسل عبدالله – إصدار 2021.

Share.

About Author

باسل عبدالله - مسؤول تحرير مجلة تواصل مدني

Leave A Reply