مجلة تواصل مدني – العدد 14- عن شهر 12/2015- صفحة “مقابلة”- ص. 8 – إعداد شبيب دياب
مقابلة مع الدكتور عصام خليفة: عودة إلى التاريخ مع مؤرخ مشارك في الاحداث
مِن الطالب المناضل في حركة الوعي في سبعينات القرن الماضي، إلى النقابي الذي انتخب في اول هيئة تنفيذية لرابطة الاساتذة المتفرغين في الجامعة اللبنانية بعد وقف الحرب اللبنانية مطلع التسعينات، أمينا للسر، ثم رئيسا للرابطة عام 1996، إلى عصام خليفة المثقف الملتزم والمناضل في قلعة مميزة من قلاع الثقافة في لبنان أقصد: الحركة الثقافية أنطلياس، إلى عصام خليفة المؤرخ المهتم بالحقبة العثمانية، والتي يملك آلاف الوثائق عنها وعن تاريخ لبنان في تلك الحقبة، إلى عصام خليفة المهتم بالشأن العام والحاضر دائما للدفاع عن سيادة لبنان واستقلاله وتطوره الديمقراطي والمنحاز إلى المؤسسات الوطنية وفي مقدمها الجامعة اللبنانية.
من اين نبدأ مع عصام خليفة؟ بداية أود أن اشكرك صديقي وأن أشير إلى أننا كنا معا في العمل النقابي، ونحن معا ننتمي إلى تيار فكري واحد هو التيار العلماني تيار المجتمع المدني، تيار المطران غريغوار حداد؛ الذي أسسه من خلال ممارساته ومواقفه وكتاباته في مجلة آفاق وغيرها. ويشرفني أن تنشر وجهة نظري في مجلة تواصل التي يصدرها تيار المجتمع المدني.
دخلت الجامعة اللبنانية عام 1966-1967 وكانت الجامعة في حالة غليان آنذاك، وكانت مجالا رحبا لمختلف التيارات الفكرية والمواقف. وانا قادم من بلدة شمالية نائية، جوّها العام ضاغط ومحدود. وفي الجامعة تعرفت إلى طلاب من مناطق أخرى ومن تيارات فكرية مختلفة. وقد ترجمت حماسي واندفاعي من اجل التغيير إلى الترشح لرابطة الطلاب آنذاك في كلية التربية. وانتخبت أمينا للسر في رابطة كان رئيسها آنذاك أنطوان سيف. وفي العام 1969 انتخبت رئيسا للرابطة بعد أن ترك انطوان مقاعد الدراسة للالتحاق بالتعليم الثانوي. وبقيت رئيسا للرابطة حتى العام 1971. وقد أسسنا في بداية هذا العام الاتحاد الوطني لطلاب الجامعة اللبنانية. وانتُخبت أول رئيس له.
انجزنا الكثير في هذا الاتحاد، وخضنا سنوياً إضرابات طويلة من أجل تحقيق مطالب تتعلق بالجامعة، وأهمها الإضراب الطويل من اجل تفرغ الاساتذة فيها. يومها دخلَت قوات الأمن مبنى كلية التربية واستخدمت العنف ضد الطلاب وأذكر كيف شق رأســي بـضـربـة من أحدهم، لأننا حاولنا منعهم من الدخول، وقضـيـتُ ليلة في السـجن، ومع ذلك أصريت في اليوم التالي وأنا جريح على التظاهر مع زملائي الطلاب الذين استقبلوني بحفاوة بالغة. وكانت تلك الحادثة نقطة تحول في حياتي: لم أفهم كيف تستخدم الشرطة العنف ضد طلاب مسالمين داخل جامعتهم. كانت مشاعر التضامن من زملائي معي والتفافهم حولي دافعا لي على الاستمرار تحت شعار تلازم الفكر والممارسة، وذلك من أجل النهوض بالجامعة اللبنانية كإطار للترقي الاجتماعي والانماء الوطني، خضنا معركة البناء الجامعي الموحد، قبل بناء الحدث الشويفات، ومعركة إنشاء الكليات التطبيقية، والأهم كان مطلب مشاركة الطلاب في ادارة شؤون الجامعة. ولا أزال أذكر ببالغ الاحترام رئيس الجامعة اللبنانية آنذاك الدكتور إدمون نعيم. كنا آنذاك متأثرين بشعارات الحركة الطلابية في أوروبا ومنها المشاركة، استدعاني د. نعيم مرة وسألني “شو يعني بدكم بالمشاركة”.. فأجبته بدنا نشارك.. لم نكن ناضجين حتى نبلور المطلب أو نترجمه عملياً، فقال لي عليكم أن تطلبوا تعديل قانون تنظيم الجامعة اللبنانية 75/67 المادة المتعلقة بتكوين مجلس الجامعة. هكذا تمسكنا بهذا الاقتراح وطرحناه علنا كواحد من أهداف التحرك الطلابي، كان الدكتور نعيم رحمه الله محاوراً لبقا، وكان متفهما لمطالبنا، وقد أرشدنا إلى الطريقة التي تحقق مطلب المشاركة، وبالفعل تم تعديل القانون بحيث تمثل الطلاب في مجلس الجامعة وفي مجالس الكليات، وأذكر أني انتخبت ممثلا لكلية التربية في مجلس الجامعة. وهذه التجربة أفادتنا كثيرا. خضنا معارك في كل عام دراسي وفي مقدمها تفريغ أساتذة للتدريس في الجامعة اللبنانية، وإقرار المنح الوطنية للطلاب غير المقتدرين، إضافة إلى المنح المخصصة للمتفوقين وإيفادهم إلى الخارج. كما أنشئت مطاعم جامعية وخاصة في المدينة الجامعية في الحدث، كما تم إعداد مشاريع مراسيم لإنشاء الكليات التطبيقية. كانت رؤيتنا في الحركة الطلابية أن التعليم العالي في خدمة الإنسان وتنمية المجتمع. فالتعليم حق لأبناء الفئات الفقيرة، وعلى الجامعة اللبنانية أن تلعب دورها التنموي واستقبال أبناء المناطق البعيدة عن العاصمة.
وهكذا لعبت الجامعة اللبنانية لاحقا دورا هاما في تنمية المناطق عن طريق التعليم، خاصة خريجو الكليات التطبيقية. وكنا نركز على الدور البحثي للجامعة كي لا تكتفي بنقل المعرفة، بل بضرورة إنتاجها عن طريق الأبحاث. كما رفعت الحركة الطلابية شعارات وطنية كإنماء المناطق وتحصين الجنوب اللبناني والتجنيد الاجباري (خـدمة الـعـلـم) ولم تكن همومنا طلابية فقط، فقد تعدتها إلى الهموم الـوطـنـيـة والـقـومـيـة
واصدرتَ كتابا بهذا الموضوع؟ نعم بعد عدة أبحاث ودراسات وثائقية وميدانية قمت بها، وأصدرتُ الكتاب وأنا أستاذ بالجامعة.وخضنا نقاشات واسعة بين الطلاب حول الدعم المطلق للمقاومة الفلسطينية، والدعم من ضمن المحافظة على السيادة اللبنانية. واصدرنا آنذاك عددا خاصا من المجلة الطلابية عن القضية الفلسطينية. خاصة أن حرب تموز 1967 أسست لوعي سياسي جديد عند الشباب، بعدها عكفتُ على دراسة الأطماع الاسرائيلية في الجنوب وأذكر بشكل خاص كتاب أسعد رزوق في هذا الموضوع. إذن كنا متنبهين إلى الأطماع الصهيونية في المياه اللبنانية.. وقمت بأبحاث حول موضوع الحدود والمياه، الذي بات موضع اهتمامي حتى اليوم.
اذا كانت حرب تموز قد اثرت على الوعي السياسي، فماذا تقول عن المرحلة الشهابية والوعي الاجتماعي؟ صحيح… ما تقوله صحيح.. أنا من قرية لم تصل إليها المياه والكهرباء إلا في عهد فؤاد شهاب، عندها فقط شعرنا أن هنالك اهتمام من قبل الدولة بالقرى النائية، أضف إلى ذلك المشروع الأخضر الذي اهتم رئيسه المهندس بصبوص بإنماء الزراعة في الريف. كلنا نعرف أن خدمات الدولة وصلت في عهد فؤاد شهاب، وكان طرحنا في الجامعة اللبنانية يتأثر بجو الشهابية. وكان هنالك انقساما بين السياسيين حول الجامعة اللبنانية؛ منهم من يتساءل لماذا تطوير الجامعة، والبعض الآخر يريد أن يحقق مكاسب بتبني مطالبنا. كنا طرفا وسطيا أطلق البعض عليه اسم اليمين الذكي. كنا مع المطالبة بالدمقراطية والعدالة الاجتماعية بمفهومها الاقتصادي وتطوير الجامعة اللبنانية، وبذات الوقت نؤكد على استقلال لبنان وسيادته، أي أننا جمعنا بين المسألة الوطنية والقضية الاجتماعية الاقتصادية والديموقراطية. لم نكن نعتبر أنفسنا من اليمين وكنا نقدم أنفسنا على أننا تيار مستقل، أطلق عليه لاحقا اسم اليمين المستنير.
اين كانت حركة الوعي بين الثورة والتغيير الدمقراطي؟ كان هنالك نقاشات وخلافات فكرية بين الطلاب حول التغيير الثوري أو التغيير بالإصلاح التدريجي. من جهتنا كنا نعي التركيب المعقد للمجتمع اللبناني، وأن الذين يركبون حصان الثورة الفلسطينية يرغبون بالتغيير الثوري، كنا ضد هذه النظرية وكنا نرى أن الثورة تؤدي إلى صدام أهلي. ونحن ضد العنف، وشاعت آنذاك نظرية الطائفة الطبقة واستحوذت على نقاش واسع، (تلميحا على الطائفة المارونية) وكان من الصعب تصنيف فقراء الريف المسيحيين ضمن تلك الطبقة، فأوضاعهم تشبه أوضاع الريفيين من السنة والشيعة، ومواجهة التخلف تتم عن طريق توحيد كل الجهود ولمختلف الفئات المهمشة. والقضايا الاجتماعية كانت تجمع الناس من كل الفئات، كانتشار الأمية وتأمين عمل للخريجين، وكان هنالك قضايا اخرى مطروحة وفي مقدمها حقوق الإنسان وقضايا المرأة المختلفة. وكنا بممارساتنا نؤكد على أهمية المواطنية في لبنان، وقد تضمن كل ذلك ميثاق حركة الوعي، وباختصار كنا تيارا علمانيا يرى في المواطنية عنصرا موحدا بديلا للانتماءات الطائفية التي تفرق.
وماذا عن مطالب الحركة الطلابية؟ كنا نطالب بتحقيق جودة التعليم: مكتبات ومختبرات، أبنية جامعية لائقة ومطاعم طلابية، وغرف سكن لطلاب المناطق البعيدة وتوفير كل الشروط المادية والمعنوية لتيسير العملية التعليمية، بما في ذلك الأساتذة الأكفاء والمنح الجامعية. خضنا كحركة الوعي النضال على جبهتين؛ الأولى مع ما كان يسمى الأحزاب المسيحية، والثانية مع أحزاب اليسار اللبناني. كنا مستقلين عن اليمين وعن اليسار. شكلنا قوة ثالثة وازنة كبقية القوى، وفي الانتخابات كنا الطرف المرجح. وعندما انتقلت قيادة الاتحاد إلى اليسار بقيادة الفطايري أصبحنا معارضة طلابية، ولكننا كنا نشارك بكل تحركات الاتحاد ونضالاته، حتى عادت القيادة إلينا عام 1972. كان هنالك تداولا دمقراطيا لقيادة الاتحاد الوطني لطلاب الجامعة اللبنانية. تعاونا خاصة مع الطلاب الشيوعيين رغم التباين الحاصل بيننا حول بعض القضايا. إنها المرحلة الذهبية التي تم فيها ترسيخ دور الجامعة اللبنانية التنموي على مستوى الوطن.
(لا يتسع المجال للإحاطة بتاريخ المؤرخ عصام خليفة وسيكون لنا معه أكثر من لقاء في أعداد قادمة).