مجلة تواصل مدني – العدد 8- عن شهر 8/2013- صفحة “آراء حرة”- مقالة – رشا الرافعي
المقاومة السلميّة- مقالة- رشا الرافعي
الإنسان قيمة مطلقة. فهو أرفع قيمة موجودة وهو المثال الحاضن لعظمة الوجود كله. لذا، لا يجب الإستهانة بهذه القيمة أو تعريضها للخطر إلا في سبيل العدالة، مما يفصل بين مبدأ مقاومة الظلم والاعتداء على الغير. إذ انَّ جميع الأعراف والقوانين والأديان والقيم الأخلاقية تعترف بحق الأفراد بالدفاع عن النفس في حالة الإعتداء على حقوقهم الإنسانية. فالمطالبة بالحق فعل إيجابي يعكس وعياً إجتماعياً هدفه إرساء العدل. أما الممارسة الحضارية للوصول إلى ذلك فهي مبدأ اللاعنف. فما هي سياسة اللاعنف وكيف نثبت اللاعنف في ضمير المجتمع؟
اللاعنف هو إستراتيجيا سياسية وفلسفة أخلاقية تنبذ إستخدام العنف في سبيل مصالح خاصّة أو عامّة. هو بديل سلمي لموقفين آخرين هما الرضوخ والإنصياع السلبي من جهة، أو النضال والصدام المسلح من جهة أخرى. لذلك فإن اللاعنف يدعو إلى طرق اخرى للكفاح منها الاضرابات، الحركة البطيئة، المكوث في الطرقات، الاعتصامات، الاحتجاجات والمسيرات وغيرها من أشكال العصيان المدني. هذا المصطلح يواجه القمع والطغيان بشكل مباشر، فهو فن من فنون القوة ووسيلة للتحرر، و نشاط يقود إلى العدالة والسلام بالحضّ على العمل الأخلاقي وعدم السكوت على الظلم. إنه وسيلة للدفاع عن الحقوق ضدَّ المعتدي بطرق تعطِّل فعاليّة عنفه. والعنف ليس بالضرورة عنفاً جسدياً، بل قد يبدأ بالشتيمة والإهانة أو المساس بمشاعر الآخر، وهذا ما يُعرَف بالعنف المعنوي. وقد تعرض علماء الإجتماع لظاهرة اللاعنف، كالعالم بتريم سوروكن الذي يقول أنها: “عبارة عن سلوك مسالم وهادئ يجنح نحو التفاهم والود والإنسجام مع الآخرين، ويتجنب القوة والصدام مع المناوئين الخصوم، حتى ولو كلف ذلك بعض الخسائر المادية والاعتبارية للطرف الذي يتوخى التهدئة والسلام”.
للنضال اللاعنفي أمثلة عديدة دوّنها التاريخ وتوارثت نتاجها الأجيال. فالقس “مارتن لوثر كينج” خيرُ مثال لرواد هذا النوع من الممارسة السلمية، فقد وقف بوجه العنصرية تجاه الأمريكيين الأفارقة. إذ برزت في وقتها إحتجاجاته وحملته ضد التمييز العنصري في نظام الباصات حيث يتعرض أصحاب البشرة السوداء للإعتداء والتفرقة بتحديد مقاعد خاصة فقط لهم في خلفية الباص، بينما يتمتع ذوو البشرة البيضاء بالمقاعد الأمامية. وقد أيده العديد من الأفارقة المضطهدين ودعموا حملته التي تمثلت بمقاطعة هذه الباصات ورفع شكوى قانونية، مما أدى إلى كسب حكم من المحكمة بعدم قانونية هذه التفرقة العنصرية.
أما السياسي والزعيم الروحي للهند “صانع اللاعنف” غاندي، فهو مؤسس فلسفة اللاعنف (الساتياغراها)، وهي باقة من المبادئ التي تقوم على أسس دينيّة سياسيّة وإقتصاديّة لخصها بالشجاعة والحقيقة واللاعنف. قال غاندي عن سياسة اللاعنف “إنَّ اللاعنف هو أعظم قوّة متوفرة للبشريّة… إنها أقوى من أقوى سلاح دمار صنعته براعة الإنسان”. فهو يُؤمِن بتمتع الخصم بذرّة من الضمير والحريّة كشرط يمكنه من فتح حوار موضوعي مع الطرف الآخر. وتتخذ سياسة اللاعنف لدى غاندي عدة أساليب لتحقيق أغراضها، منها الصيام والمقاطعة والاعتصام والعصيان المدني والقبول بالسجن وعدم الخوف من أن تقود هذه الأساليب حتى النهاية إلى الموت.
و بما أن لكل سياسة آليّة، و اللاعنف كسياسة سلميّة له آليات عديدة تنظم و تترجم عملية تفعيله على أرض الواقع. فعلى كل من يريد إتباع هذه السياسة أن يستعين بالشورى بتقليب الآراء، ووجهات النظر في قضية من القضايا، او ازمة معينة، واختبارها من أصحاب الرأي والخبرة، وصولاً إلى الصواب. من جهة أخرى عليه الإستعانة بالحوار كلغة أساسية و ركيزة مهمة في تكريس اللاعنف ، معترفاً بحق الآخر بالوجود و التعبير و الدفاع عن النفس. ثم يأتي دور التركيز على أهمية التعايش ونشر الوعي الإجتماعي بالسعي لإلغاء التمييز الطبقي و نشر المساواة بين الناس من خلال تشريع قوانين عادلة تعطي كرامة الانسان و سلامته اولوية، فقانون حماية النساء من العنف الاسري، الذي اقر مؤخرا”، هو خير مثال لهكذا قوانين.
إذا تطرَّقنا بصورة عامّة لأنواع العنف الموجودة في يومنا هذا نجد أنَّ جميعَها له حلّ أساسي، يكمن بالمصالحة مع الذات وصولاً إلى المصالحة مع الآخر. كلٌّ منّا عليه أن يرتب ويخطط لحياته ضمن الجماعة، على أساس علاقة تبادل وتعايش مع أفرادها. اللاعنف إذاً ليس إستسلاماً، وليس محاولة لفرض حقيقة، إنما هو محاولة للبحث عنها. فيا أيُّها الإنسان أدرك حاجتك الماسة للآخر والعيش المشترك، فهما ضرورة لإستمرار الحياة وتطورها الطبيعي. كن أنت رسول الخير، فلتكن المواجهة الوحيدة بين بني بشر هي المواجهة اللاعنفية البنّاءة