من أسباب عدم التوصل إلى حوار علمي بنّاء بين المفكرين والكتاب، هو عدم الإنتباه إلى الفارق الكبير بين ثلاث مقاربات، أو طرائق فكرية، عند البحث في أي موضوع علمي او فلسفي أو ديني، هي: الدمج والفصل والتمييز، بين جانبين أو أكثر من الواقع.
فالدمج هو الخلط أو الربط أو الوحدة بين الجانبين أو الجوانب، فتزول الحدود بينها:
والفصل هو إقامة حاجز أو سدّ يمنع أي علاقة بين الجانبين أو الجوانب.
والتمييز هو تحديد كل جانب تحديدًا واضحًا، مع الإبقاء على العلاقة أو العلاقات بين هذه الجوانب.
ولنطبق هذا الكلام على ما قيل في العلمانية.
فالدمج هو الخلط بين العلمانية (بفتح العين) والقيم الأخرى كالعِلمية والعِلمانية أو العقلانية أو الديمقراطية، أو المواطنية، أو المدنية، أو العصرية والحداثة…
والفصل هو عدم اكتشاف أو عدم قبول العلاقات المتنوعة بين العلمانية والقيم الأخرى.
والتمييز هو تحديد كل قيمة تحديدًا علميًا دقيقًا، وتوضيح العلاقات بينها.
الدمج هو الخلط بين العلمانية والإلحاد أو رفض القيم الدينية من جهة، والخلط بين العلمانية كقيمة لها استقلاليتها وإحدى العلمانيات أو ما سموه علمانية في بعض البلدان التي نشأت فيها.
والفصل هو نفي أي علاقة بين العلمانية والدين، وبين أبعاد العلمانية وأبعاد الدين.
والتمييز هو تحديد العلمانية كقيمة إنسانية أساسية، وتحديد الدين كقيمة إنسانية إلهية، وتوضيح العلاقات الممكنة بين القيمتين العلمانية والدين.
لماذا الإصرار على استعمال لفظة العلمانية، إذا كانت تحدث ردة فعل عنيفة، بل رفضًا قاطعًا من قِبل أغلبية الأوساط الإسلامية والمسيحية؟ لماذا لا تستبدل بكلمة أخرى لا تثير هذه الإنفعالات السلبية؟
لأن مضمونها كما جاء في تحديدها من حيث هي قيمة شاملة لا تعبّر عنه أي لفظة أخرى،
لماذا لا يستغنى الكلام عن العلمانية، إذا كانت الأجواء المسيحية والإسلامية في غالبيتها رافضة لها؟
لأن مضمونها الصحيح- لا المخطئ أو الخاطئ- هو قيمة إنسانية لا يمكن ولا يجوز الإستغناء عنها.
وهذا يشبه ما حدث أو يحدث مع قيم إنسانية أخرى، كالحرية مثلاً. فكم هناك من ظاهرات ناقصة أو مشوهة للحرية، على الصعيد الشخصي أو الجامعي أو الوطني. ولقد قال أحدهم:
“أيتها الحرية كم جرم ارتُكب باسمك!”
فيمكن القول أيضًا: كم جرم ارتكبته الأنظمة السياسية المختلفة باسم العلمانية!
وكما أنه لا يجوز للإنسانية أن تسقط الحرية من مجموعة القيم التي تؤمن بها، وتفاضل لتحقيقها تحقيقًا صحيحًا شاملاً، بل عليها أن تواصل النضال وتصحح كل تشويه للحرية، هكذا يجب على الذين اعتمدوا “العلمانية الشاملة الحيادية إيجابيًا” تجاه الأديان أن يثابروا على النضال من أجل توضيح مفهومها وتحقيق مضمونها مهما اعترضت الصعوبات هذا النضال.