لسنا بخير – أديب محفوض

0

هل كانت التربية في لبنان يومًا بخير؟ ربّما تستدعي الإجابة على سؤال كهذا معاينة القطاع التربوي من جميع الجهات وعلى كافّة المستويات، منذ الاستقلال وإلى اليوم، مرورًا بفترات الرخاء كما بالأزمات التي عرفها بلدنا.

حيث لم تكن الحروب والأزمات وحدها السبب في تردّي الواقع التربوي، فخلال فترات الرخاء الاقتصادي والاستتباب الأمني والسلام والسلم الأهلي، التي أنتجت سمعةً ناصعةً للتعليم، استطاعت المناهج المعتمدة بناء العقل العلمي للمواطن اللبناني، وأخفقت في الوقت عينه في بناء المواطن نفسه، حيث فشلت هذه المناهج في تكريس الثقافة الوطنيّة المشتركة، وقيم الانتماء والولاء للوطن، وثقافة المواطنة واحترام القانون والحقوق والواجبات، وفكرة دولة القانون، التي أصبحت كلّها وجهات نظر، تفهمها وتنشرها كلّ جماعة لبنانيّة وفقًا لأهوائها، ليصبح السؤال في ظلِّ عقم المناهج على مستوى بناء الإنسان-المواطن: أيّ مواطن لبناني أنتجت المناهج التربويّة القديمة وتلك المعتمَدة حاليًّا؟ ألم تُنتج في الغالب الأعمّ المواطن المتعصّب والطائفي والفوضوي والأناني الذي لا يكترث للقانون ولكلّ ما له علاقة بالمساحات العامّة المشتركة بين اللبنانيّين؟ ألم تظهر هذه الخصائص جليّةً للعيان، لاسيّما من خلال التعامل مع قضايا أساسيّة ومحطّات حاسمة وأزمات مُتلاحقة في حياة المواطنين، وكذلك من خلال مستوى استجابتهم لمتطلّبات الالتزام بالقوانين والأنظمة؟

وإذا كانت الحروب والأزمات تنعكس بشكلٍ مباشرٍ وواضحٍ على الواقع التربوي، فتترك آثارها السلبيّة عليه لسنواتٍ، إدارةً مترهّلةً، وهيئات تعليميّة غير مدرّبة بالقدر الكافي، ومناهج متخلّفة، ما يؤدي إلى تدهور عمليّة التعليم وتراجع المستوى التربوي، إلّا أنّ فترات الرخاء والأمان لم تخلُ تمامًا من المشاكل والعوائق التربويّة، حيث عرفت التربية في لبنان معضلات مزمنة، إن من جهة طبقيّة هذا القطاع، حيث نجد المدارس التي تُحاكي بأكلافها أثرياء هذا البلد بمقابل ترك التعليم الرسمي ملاذًا للفقراء، أو من جهة طائفيّة المؤسّسات التربويّة، إذ لكلّ طائفة مدارسها وجامعاتها، التي تستغلّ ضعف القرار التربوي المركزي لتنفّذ السياسات التي تخدم مصالح الطائفة، على حساب المصلحة الوطنيّة العامّة، لاسيّما في مجال تعليم التاريخ والتربية الدينيّة والتربية الوطنيّة، متسلّحةً بنصّ المادّة العاشرة من الدستور اللبناني، التي تُقرّ حريّة التعليم في لبنان، حيث عمدت المرجعيّات الطائفيّة للمؤسّسات التربويّة الكبرى إلى خطف تلك المادّة، وأخذها نحو سياقات لا تحتملها أصلًا!

وبالرغم من أنّ القانون يصنّف المدارس الخاصّة على أنّها مؤسّسات غير ربحيّة، أثبتت الوقائع والأرقام أنّ الهدف الربحي لديها يضاهي أهدافها العلميّة والاجتماعيّة والطائفيّة والسياسيّة، ولم يَحُل كلّ التلاعب بموازناتها، وعلى مدى سنواتٍ طويلةٍ، والذي هدف إلى إظهار عدم وجود فائض مالي عن تكاليف رواتب معلّميها ومستخدميها ومصاريفها التشغيليّة، دون إثبات الهدف الربحي لتلك المؤسّسات.

أمّا على مستوى إدارة القطاع التربوي، فالسقطات لا تُعدّ، حيث أصبحت الامتحانات الرسميّة بالنسبة للقيّمين عليها، الغاية والهدف بعينهما، مهما بلغ تراجع مستوى الشهادة الرسميّة، وكأنّ المطلوب في نهاية كلّ سنة إثبات أنّ السلطة قامت بواجباتها وأنجزت عامًا دراسيًّا، بغضّ النظر عن حقيقة ما أُنجز على مستوى الكفايات العلميّة والأهداف التربويّة، وعن التفاوت الكبير بين المؤسّسات التربويّة، ولاسيّما بين الخاصّة والرسميّة في هذا السياق، ولو استدعى ذلك تقليص المناهج وتخفيض مستوى المسابقات، الذي ينعكس بلا شكّ تخفيضًا في مستوى الشهادة، لكن لا ضير في ذلك طالما أنّ الوزارة أنجزت ما عليها، ولو على أشلاء الأساتذة، وعلى حساب مستوى التعليم، ومستقبل التلاميذ والعلم في البلد. ناهيك عن التجاوزات التي أصبحت ملازمةً للامتحانات الرسميّة في السنوات الأخيرة، وليس أقلّها ما جرى في الدورة الأولى من العام الدراسي المنصرم، من تسريبٍ لبعض المسابقات وعرضها على وسائل التواصل الاجتماعي قبل انط لاق الامتحان، والتمييز بين الطلّاب من خلال منح علامة الاستلحاق لط لّاب فرع الآداب والإنسانيّات دون باقي الفروع، وتجاوز الأصول القانونيّة في تعديل تثقيل مادّة الرياضيّات لفرع الاقتصاد والاجتماع، والذي تمّ تخفيضه من 50 إلى 30، بقرار وزاري، علمًا أنّ الأمر يحتاج إلى مرسوم في مجلس الوزراء، وغيرها الكثير من الشوائب والسقطات. أمّا بالنسبة للقيّمين على المؤسّسات التربويّة الخاصّة، فإنّ الامتحانات الرسميّة أصبحت فرصة لحصد تلاميذها الدرجات العالية، لتترجمها لاحقًا وسيلةً لجذب الزبائن-التلاميذ. هذا الواقع إن دلّ على شيء، فعلى المستوى الكارثي الذي وصلت إليه التربية بكلّ أبعادها في هذا البلد الولّاد لأزماتٍ لا تنتهي، فكأنّ الجميع يقذف بقنبلة المؤهّلات والكفاءات والإمكانات إلى الأمام، حيث ستنفجر لا محالة في مرحلة التعليم العالي، وبعدها في مستوى الأداء والسلوك المهني، خصوصًا بعد أن دخلت مؤسّسات التعليم العالي في هذه اللعبة المربحة، وهو ما ظهر في سلسلة الفضائح التي طالعتنا بها الصحف بشكلٍ متكررٍ، دون أيّ تحرّك من قبل القضاء أو الجهات الرقابيّة لمعالجة الفساد والتجاوزات داخل أروقة الوزارة.

لا شكّ أنّ التربية والتعليم يحتاجان جهدًا وعنايةً وإنفاقًا أكبر من جهة السلطة، حيث أنّ هذا القطاع ليس عبارةً عن خدمةٍ تقدّمها السلطة للمواطن، إنّما هو إنتاج المواطن نفسه، فما تزرعه الدولة في القطاع التربوي سوف تجنيه في جميع مجالات الحياة والعمل والإنتاج. وعليه، تصبح مسألة إعادة النظر بكلّ ما له علاقة بعمليّة التعليم والتربية مسألة ملحّة لا تحتمل تأجيلًا أو تسويفًا. ولا شكّ أنّ القطاع التربوي يقع في نطاق مسؤوليّة الجميع، إلا أنّ القرار التربوي الأخير، والذي هو قرارٌ سيادي، يجب أن يصدر عن الجهات التربويّة التابعة للدولة، لا أن يكون مستباحًا من قبل جهات غير رسمية، سواءٌ أكانت سفارة هنا أو جمعيّة أو منظّمة دوليّة هناك، لمجرّد أنّها تدعم الوزارة، أو تقدّم التمويل لبرامج تطوير المناهج، فوضع المناهج الدراسيّة مسألة سياديّة يجب حصرها بالجهات المختصّة في الدولة، التي يجب عليها ممارسة سيادتها في هذا المجال، من  خلال تحديد المرتكزات والقيم التي سوف تبني المؤسّسات التربويّة عليها مواطني المستقبل، وتفرض الالتزام بمضامينها على المؤسّسات الخاصّة قبل الرسميّة.

Share.

About Author

باسل عبدالله - مسؤول تحرير مجلة تواصل مدني

Comments are closed.