مقالة نُشرت في خضم الحرب في صحيفة النهار
يا “زعماء المسيحيين” في لبنان، لا تتكلموا ولا تعملوا باسم المسيحية!
ويا “زعماء المسلمين” في لبنان، لا تتكلموا ولا تعملوا باسم الإسلام!
فالمسيحية والإسلام، لا يحق لكم، لا يحق لأحد في العالم، أن يُمثلهما، أن يأخذ حق التكلم والعمل باسم أي منهما.
هما أكبر من أي منكم، من أي إنسان.
هما تعبيران عن ولوج الله الواحد الأحد في تاريخ البشرية، والتأكيد أن الله أكبر من كل كلام وكل عمل وكل تصوُّر، وأنه الدعوة الدائمة للإنسان أن يتجاوز الحالة الشخصية والحالة المجتمعية، أنَّى توصلت كل منهما، صوب الأفضل والأكمل.
هما دعوة إلى الثورة الدائمة على أي واقع.
المسيحية ليست ملكاً للمسيحيين، والإسلام ليس ملكاً للمسلمين.
وكل من يَدَّعِي التكلم أو العمل باسم أحدهما، مُمثِلاً لأي منهما، يضع اليد على ما لا يملكه، يسطو عليه، ويُسخِّرُه لأهداف غير التي جاءت المسيحية والإسلام لأجلها. هو مجرم تجاه الله وتجاه الإنسان.
يا زعماء لبنان السياسيين والحزبيين والعسكريين، زعامتكم مؤسسة على هذا السطو، على هذا الجرم! زعامتكم غير شرعية، مهما بحثتم عن تبرير لهذه الشرعية، فالدستور والقوانين والأعراف والميثاق الوطني، وكل ما ترجعون إليه، خاطئ في أصله، في أساسه، لأنه مبني على التمثيل للمسيحية والإسلام، شرعيتكم ليست مُنبثقة من الشريعة الإسلامية ولا الشريعة المسيحية، بل من شريعة الغاب!
أدخلتم الخوف في قلوب المسيحيين والمسلمين في لبنان، وغذّيتم هذا الخوف: الخوف على المصير، على الحقوق، على المصالح. جعلتُم المسيحيين يخافون من المسلمين، والمسلمين يخافون من المسيحيين. وجعلتم من أنفسكم الملجأ لإشاعة الطمأنينة لديهم، والسلطة للدفاع عنهم ولتأمين مصالحهم وحقوقهم ومصيرهم!
بل للدفاع عن المسيحية وعن الإسلام، كأن كلاً منهما يُهدده الآخر! هذا كذب ونفاق وتضليل!
وبما أنكم كثيرون تريدون الزعامة على أبناء دينكم أو طائفتكم أو مذهبكم،
وبما أنكم لا ترضون باقتسام الزعامة،
جئتم بشعار “توحيد الصف المسيحي في سبيل الوحدة الوطنية”، و”توحيد الصف الإسلامي في سبيل الوطن الواحد”.
وبما أن كلاً منكم يريد هذا التوحيد تحت رايته، فكل مرة أطلق أحدكم هذا الشعار، كان ذلك مناسبة وسبباً لانقسام جديد ضمن كل صف. ثم في سبيل إعادة توحيد الصف، كأنّه لا بد من الحسم ليبرز زعيم واحد لكل صف. وبما أن الحسم السياسي غير كاف، أصبح من الضروري التوصل إلى الحسم العسكري والمآسي التي ترافقه.
إن الخطأ في الأصل وفي الأساس لا يصدر عنه إلا أخطاء في الفروع وفي محاولات للبناء على الأساس الخاطئ الواهي.
المسيحيون والمسلمون في لبنان يُعانون نتائج هذه الأخطاء.
هم ضحية زعامتكم وتمثيلكم ودفاعكم عنهم وعن المسيحية والإسلام.
عشرات آلاف القتلى والجرحى والمُعاقين والأيتام والمُشرّدين والمُهجّرين والجائعين ومُدمني المُخدّرات، بعض هذه النتائج.
كيف تُجيزون لأنفسكم أن تكونوا سبباً لهذه الكوارث والآلام؟
قد يكون بينكم من هم ذوو نية حسنة، راغبون في الدفاع والإنقاذ والتحرير والتوحيد… ولكن آن لهؤلاء أن يعوا خطأهم. وإذا كانوا فعلاً ذوي نية مُستقيمة، آن لهم أن يستقيلوا من زعامتهم الطائفية والمذهبية.
الزعامة والسلطة على المسيحيين باسم المسيحية هي ضد المسيحية والمسيح الذي قال: “لا تدعوا لكم على الأرض سيداً ولا أباً ولا مُعلِّماً. فكلكم إخوة”. والزعامة والسلطة على المسلمين باسم الإسلام هي ضد الإسلام والقرآن، الذي خاطب النبي محمداً قائلاً له: “لستَ عليهم بمسيطر”، و”إنا أرسلناك شاهداً ومُبشِّراً ونذيراً”.
السلطة في المجتمعات الإنسانية ضرورية، ولكن لا باسم الدين، بل باسم المجتمع ومصلحته.
والسلطة ليست التسلط والسيطرة وتسخير الناس لمصالح الزعماء، بل هي سلطة اتخاذ المقررات لخدمة الناس. وهيهات أن يقوم نظام في العالم يعتبر السلطة خدمة، يُمارسها كذلك “المسؤولون عنه” أي الذين يُسألون عما إذا كانوا حقاً يخدمونهم.
وإذا كان لتلك السلطة المدنية نتائج سيئة، فإنها تبقى محصورة في البنى المجتمعية، من دون أي رجوع إلى الدين والله، ومن دون التِماس التبرير والمباركة منهما… ومن ثم من دون الإساءة إلى الله وإلى الدين بسبب المُمارسة التسلطية المدنية.
فالنتائج السيئة تبقى محصورة في المجتمع المدني. وعلى هذا المجتمع أن يحاول التصحيح والتغيير.
الحمد لله أن الكثيرين من أبناء المجتمع يستمدون حياتهم المسيحية أو الإسلامية، لا من علاقتهم بالزعماء الطائفيين السياسيين والحزبيين والعسكريين، بل من علاقتهم بالله، الذي هو “أقرب إليهم من حبل الوريد” بحسب القرآن، والذي “أصبح ابنه وكلمته جسداً وحل في ما بيننا” بحسب الإنجيل، ووعد أن “يكون معنا طول الأيام حتى انقضاء الدهر”.
الحمد لله أن المسيحية والإسلام لا يستندان إلى الزعماء الطائفيين ليتجسدا في مجتمعنا، بل إلى الذين يُعانون الكوارث بسبب هؤلاء الزعماء وصراعاتهم، ويعيشون في حضرة الله، وعند كل مكروه يقولون: “الحمد لله الذي لا يُحمد على مكروه سواه”، مع العلم أن هذا المكروه لا يأتي من الله، بل من البشر، لا سيما الذين يدّعون تصحيح المجتمع وتغييره.
أيها الزعماء الطائفيون، إذا كنّا لا نتمكن من مُطالبتكم والحصول منكم على إنهاء الاقتتال في ما بينكم، مع كل نتائجه علينا، فعلى الأقل تحق لنا، نحن أبناء الشعب، المؤمنين بالله في المسيحية والإسلام، مطالبتكم أن تكفُّوا عن الادعاء أنكم تُحاربون باسم المسيحية والإسلام، وتُدافعون عنهما وعنّا.
وأملنا كبير أن يرجع الوعي لدى جميع الذين غررتُم بهم وجنّدتمُوهم في أي حرب من الحروب التي تعاقبت علينا بسببكم، أو بسبب غيركم من الداخل أو الخارج، أملنا كبير أن يرجع وعيهم إليهم، ويكفُّوا عن محاربة بعضهم بعضاً تحت لوائكم.
***