يحكم الحياة العامة في الولايات المتّحدة الأمريكيّة نظام جمهوري علماني، مُتميّز على مستوى علاقة الدولة والدين عن العديد من الدول العلمانية الأخرى؛ إذ تعمل الولايات المتحدة على تطوير تفسير خاص بها حول العلمانية والتي تختلف عن تلك التي نراها في كل من فرنسا وتركيا.
وبالرغم من أن الدستور الأمريكي نص على حيادية الدولة تجاه الدين، فإنّ الممارسة لا تخلو من صراعات ذات خلفية سياسية، لاسيما بين التيارين الرئيسيين؛ المحافظين والليبراليين، سواء تعلّق الأمر بالقضايا المتّصلة بحرّية الممارسة الدينية أو بالقضايا المرتبطة بقاعدة عدم التأسيس.
تناقض في سياسة الولايات المتحدة
أدى هذا الصراع إلى وجود تناقضات واضحة في سياسة الولايات المتحدة إزاء الدين، فرغم أنّ الخطاب السياسي يستعير بعض المفردات الدينية ويستند إليها، غير أنّ دستور الولايات المتحدة يُعتبر وثيقة علمانية لا تحتوي على أي إشارة إلى الدين، الذي ورد ذكره على نحو معاكس تماماً للتأكيد على عدم التمييز بين المواطنين على أساس عقائدهم. فالفقرة السادسة من الدستور تنص على أنه ليس من الوارد إجراء اختبار ديني لأي شخص يرغب في شغل أي وظيفة حكومية. أما التعديل الأول الذي أدخل على الدستور فقد نصّ على أن الكونغرس لن يقوم بأي حال من الأحوال بتشريع قانون قائم على أساس ديني أو يطال المؤسسات الدينية أو يمنع حرية ممارستها.
ويقوم النظام القانوني المعمول به في الولايات المتحدة على مبدأ عدم جواز حظر الممارسات الدينية الخاصة بالأفراد، وقد أكّد هذا النظام على ضمان الحريات الخمس الأساسية: حرية الدين، وحرية التعبير، وحرية الصحافة، وحرية التجمع وحرية تقديم إلتماس إلى الحكومة لمعالجة المظالم.
هذا وقد أدى قانون استعادة الحرية الدينية والذييسمح للمُتديِّنين بممارسة حريتهم وفق ما تمليه عليه عقائدهم، إلى فرض القيود على سلطة الدولة في تنظيم الحرية الدينية، واستناداً إلى هذا القانون قام الرئيس كلينتون في العام 1995 بإصدار مذكرة في شأن وضع الدين في المدارس، وقد شدد فيها على حرية الطالب في إظهار الرموز الدينية، مُعتبراً أنه عندما تكون الملابس الخاصة التي يرتديها الطالب، مثل الكيباه أو الكِبة (أي القبعة الصغيرة اليهودية) والحجاب، خلال اليوم الدراسي، جزءاً من ممارسة الطالب لشعائر دينه.. لا يجوز للمدارس – على وجه العموم – أن تحظر ارتداء مثل هذه الرموز”.
وفي هذا الصدد يخلو النظام المعمول به في الولايات المتحدة من أي سند قانوني فيما يخص الحظر المفروض في فرنسا على استخدام الرموز الدينية أو الحظر المفروض في تركيا على ارتداء الحجاب.
الصراع بين المحافظين والليبراليين
يمكن إرجاع هذا التناقض الحاصل في أميركا إلى النزاع القائم بين المحافظين والليبراليين، حول قضية العلمانية. فبالطبع يؤيد المحافظون مسألة تبني الدولة للدين، في حين يميل الليبراليون إلى الدفاع عن الفصل بين مؤسسات الدولة والمؤسسات الدينية.
وبالنسبة لحرية الأفراد في ممارسة الدين فإن المبدأ العام الذي يقوم عليه النظام المعمول به في الولايات المتحدة هو عدم جواز حظر الممارسات الدينية الخاصة بالأفراد، في هذا الصدد يخلو النظام المعمول به في أميركا من أي سند قانوني في ما يخص الحظر المفروض في فرنسا على استخدام الرموز الدينية أو الحظر العام بسبب معتقداته أو معتقداتها الدينية.
وعلى الرغم من أن عبارة فصل الدين عن الدولة لا ترد في الدستور، فإن الرئيس توماس جيفرسون قد استخدمها عام 1802 عندما طلب منه توضيح التعديل الأول على الدستور، ومن ثم استخدمت العبارة على نطاق واسع من قبل المحكمة العليا لاتخاذ أحكام وقرارات هامة في تاريخ الولايات المتحدة.
ويرى علمانيو الولايات المتحدة أن العبارات الدينية التي تستخدم في وثائق رسمية كشعار “أمة واحدة تحت رعاية الرب” لم تدخل القاموس السياسي إلا في الخمسينات وفي عهد المكارثية (نسبة إلى جوزيف مكارثي)، كما أن عبارة “نحن نثق بالرب” أو” في أمان الرب ” المدونة على العملة الورقية الأمريكية، لم تكن موجودة قبل عام 1954، حتى وإن كانت موجودة فهي مجرد شعار ثقافي أكثر منه شعار ديني.
أداء الصلاة
شرَعت بعض الولايات في أعقاب صدور قرار المحكمة العليا في عام 1962 بفرض الحظر على أداء الصلاة في المدارس، بتخصيص لحظات للصمت والصلاة. ويمكن القول إن قضية الصلاة في المدارس مثلت فشلاً للمحافظين إذ أنهم لم يتمكنوا من نقض القرارات الصادرة عن المحكمة العليا في شأن هذه المسألة من خلال تعديل الدستور، بالإضافة إلى ذلك امتد القرار ليشمل حظر الصلاة في الأماكن كافة وفي الأنشطة العامة، مما دفع المحافظين إلى التركيز على قضية حرية التعبير الديني.
حرية الخطاب الديني
أخفق المحافظون في إعادة السماح بتأدية الصلاة في المدارس الحكومية، لكنهم نجحوا في إيجاد ساحات جديدة للتدين في المدارس الحكومية من خلال مبادئ حرية الخطاب والمساواة في الوصول إلى الغير، إذ أراد المحافظون تأكيد حرية ممارسة الأندية الدينية لشعائرها في المدارس الحكومية والجامعات، وحققوا نصراً عندما قام الكونغرس بالتصديق على مشروع قانون المساواة في الوصول إلى الغير في مجلس النواب والذي أصبح قانوناً في العام 1982 بعد أن وقع عليه الرئيس ريغان. ويحظر هذا القانون ممارسة أي شكل من التمييز ضد أي طلاب تتوافر لديهم الرغبة في عقد أي اجتماع في أطار إقامة منتديات تتناول مواضيع دينية سياسية أو فلسفية أو غير ذلك… شرط عدم تعارضها مع سير الأنشطة التعليمية. وبذلك أجازت المحكمة بطريقة غير مباشرة الأنشطة الدينية الجماعية، التي تجري ممارستها في مرافق المدرسة الحكومية بعد انقضاء ساعات التدريس.
وبذلك نرى أن هامش الحرية واسع في الولايات المتحدة الأميركية، مما جعل العلمانية فيها لها طابعها الخاص، إذ إن الدين والسياسة مُتدخلان في تاريخ أميركا.
***