أزمة الصحافة الورقية الحاليّة ليست محصورة في العالم الثالث. وكالعادة، سبقنا الغرب، لكن هذه المرّة في إغلاق صحيفة ورقية. فكان لصحيفة “الاندبندنت” البريطانية لقب “أوّل صحيفة وطنية تتبنّى مستقبل عالمي رقمي”.
يقول “افجني ليبديف”، صاحب جريدة “ذي إندبندنت” بمناسبة إغلاقها: “إنّ مجال الصحافة الورقية في حالة تغيّر، وذلك التغيير مُساق من قبل القرّاء. إنّهم يدلّوننا على المستقبل، المستقبل الرقمي. القرار هذا (إغلاق الصحيفة) يحمي الإندبندنت ويتيح لنا بأن نستمر بالاستثمار في المضمون التحريري الراقي الذي يستقطب أكثر وأكثر من القرّاء لمواقعنا الإلكترونية”.
في مطلع العام 2016، أعلنت جريدة “ذي إندبندنت” توقيف نسخها الورقية والاستمرار الكترونيّاً. في أواخر العام نفسه، أغلقت جريدة الّسفير اللبنانيّة بعد 43 عاماً من الصدور. لم يُغلق موقع السفير الالكتروني، ولكنّه متروك من دون تحديث. فيستقبل الموقع الآن زوّاره بمقال “السفير” 13552: تغيب… ولا تنطفئ! تاريخ 04/01/2017، أي تاريخ العدد التذكاري الأخير. أمّا صفحة السّفير الفيسبوكيّة فأصبحت لنشر مقالات مؤسس الجريدة الأستاذ طلال سلمان من موقعه الشخصي وحسب.
يُعلّق هنا الصحافي حسّان الزين (صحافي سابق في جريدة السفير ويعمل حاليّاً في صحيفة المدن الإلكترونية) فيرى أن أزمة الصحافة في لبنان تختلف عن أزمة الصحافة في بريطانيا. قد يكون هناك الكثير من القواسم المشتركة وخصوصاً فيما يتعلّق بالشقّ الاقتصادي، ولكن إذا تعمّقنا بتفاصيل القواسم المشتركة، نجد اختلافات عميقة جدّاً.
نظام لبنان الاقتصادي ليس بنظام رأسمالي متطوّر كالنظام البريطاني. فلا يوجد في لبنان سوق إعلانية محكومة بقواعد وقوانين معيّنة لتحدد علاقتها بوسائل الإعلام من ناحية التوزيع.
في أيّ حال، تختلف طبيعة الصحافة الإلكترونية عن تلك الورقية، والشرخ بين تلك الطبيعتان يزداد أو ينقص بحسب ثقافة المجتمع. يحصل قارئ الصحافة الورقية على جريدة أو جريدتان يوميّاً أو أكثر في حالات استثنائية، وبالكثير من الأحيان قد يفضّل جريدة معيّنة فيقرأها كاملةً. بينما قد يتصفّح قارئ الصحافة الإلكترونية مقالات من صحف محلية وإقليمية وعالمية بشكل سريع.
من ناحية الوضعية الذهنية، ينصب التّركيز على الصحيفة الورقية خلال قراءتها، فقد لا يشتت انتباه القارئ إلا مقال آخر في الصفحة نفسها. وفي غالبيّة الأحيان تكون القراءة تلك رفيقة القهوة الصباحية حين يكون الذّهن في حالة نشاط وصفاء نسبي مقارنة بانشغالات النهار. بينما تتمّ زيارة مواقع الصحف الإلكترونية باستخدام الهاتف المحمول أو الحاسوب حيث قد يشغل القارئ الكثير من الرسائل والبريد الإلكتروني ووسائل التواصل الاجتماعي… الخ. فضلًا عن أنّ غالبيّة هذه التصفّحات تحدث عشوائيّاً من خلال روابط في وسائل التواصل الاجتماعي. كما أن تصفّح جريدة كاملة الكترونيّا، إذا كانت الخدمة متوفّرة على الموقع، يتطلّب تحميلها وإبقاءها في الجهاز المستخدم في الكثير من الأحيان، فالطريقة هذه غير مرغوب بها وقد يتفاداها كثيرون. فبذلك يكتفي غالبية قرّاء الصحافة الإلكترونية بقراءة ما قد يصادفهم من مقالات على مواقع التواصل الاجتماعي ويعجبهم لدرجة التوقّف عندها والدخول عبر الرابط إلى موقع الصحيفة.
إنّ طريقة استخدام الصحيفة إلكترونيّاً، ومجّانيّتها وكثرة المنافسة فيها، يحتّم على أصحابها التعاطي مع المادّة الإعلاميّة بشكل مختلف أيضاً، وليس مع الشكل فقط. فاعتماد الهواتف الذّكية والحواسيب أجهزة تواصل وعمل وتسلية واطّلاع في الوقت نفسه يشكل حالة تركيز قصيرة الأمد؛ فلكثرة المؤثرات في الوقت عينه، لا يكمل القارئ قراءة المقال في الكثير من الأحيان، فينشغل برسالة أو اتّصال أو “نوتيفيكيشن” وسرعان ما يخرج من الموقع. هذا إذا اهتمّ المتصفّح بعنوان المقال ودخل الموقع لقراءته.
لذلك يضطر القيّمون على الصحف الإلكترونية إلى كتابة عناوين مثيرة جدّاً للانتباه، فيصِل الحال بهم إلى إطلاق عناوين غير احترافية. وأدّى هذا الأمر إلى خلق مقالات خاصّة مختلفة عن مقالات النسخة الورقية لإطلاقها على مواقعهم ومواقع التواصل الاجتماعي، وتكون هذه المقالات قصيرة بالدرجة الأولى أو مجرّد أخبار سريعة مرفقة بصور ملفتة، وتحمل عناوين مثيرة جدّاً، ويغلب على طابعها الإيحاءات الجنسية أو العنف أو الأخبار المضخّمة. فيخال للكثير ممن يطلقون على أنفسهم “قرّاء صحافة الكترونيّة” أنّهم فعلاً قرّاء ويتخلّون بالتالي عن قراءة الصحف والمقالات الحقيقية.
المنافسة هنا تلعب دورها الأساسي في محاربة الصحافة الحقيقية. فقد نشأت العديد من الصحف والمجلّات والمواقع الإخبارية الإلكترونية مع نشأة الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي بالتحديد. فكلفة المواقع الإلكترونية أقلّ من كلفة الصحف الورقية. ومع غياب قانون يُنظّم الصحافة الإلكترونيّة والنشر عبر الإنترنت في لبنان، كثرت المواقع الإخبارية الإلكترونية غير المحترفة، وأصبحت الحدود الصّحافية لديها غير واضحة، فباتت تتخطّى أصول وأخلاقيّات المهنة الصحافيّة لجلب أكثر عدد من الزوّار لصفحاتها. فتضطر الصحف الإلكترونية التابعة لصحف ورقية التي تعمل بموجب أخلاقيّات المهنة وتحت مظلّة نقابة المحرّرين بأن تتخطى المعايير كنظيراتها غير المحترفة لكسب أكثر عدد من القرّاء وبالتّالي لاستقطاب اعلانات لمواقعها، المردود المادّي الأساسي لها بحكم طبيعتها المجّانية.
في هذا الصدد، يقول الصحافي في جريدة السفير أدهم جابر “إنّ مجموعة من العوامل أدّت إلى خلق مشكلة في الصحافة المكتوبة، عوامل متعلّقة بالتوزيع، وأخرى متعلّقة بظهور ما يُسمّى بالصحافة الإلكترونية التي أصبحت منافساً للصحافة المكتوبة. فعامة الناس أصبحوا يُفضّلون قراءة الأخبار على المواقع الإلكترونية بالمجّان على شراء الجريدة الورقية، الأمر الذي خلق مشكلة. ومن جهة أخرى، إن إنشاء موقع الكتروني وتفعيله أصبح في غاية السهولة، خصوصاً أن كلفته هي أقل بكثير من كلفة إنشاء الصحيفة الورقية”. ويضيف جابر “إنّ الصحف الورقية اليوم تعتبر نخبوية، فهي لا تخاطب القارئ الجديد. لكن رغم المآسي التي تعاني منها الصحافة الورقية، فالإعلام الرقمي لا يمكن أن يكون بديلاً لها. وعلى الدولة أخذ خطوات لدعم هذا القطاع، ربّما من خلال الإعلانات الرسمية، أي دعم كل الصحف بشكل متساوي، لكن ليس بمنطق المحاصصة وبمنطق التقسيم الطائفي والسياسي، كما يمكنها منع احتكار الإعلام من قبل بعض الشركات”.
أما الصحافية في جريدة الأخبار راجانا حميّة فتعتبر أنه ليس هنالك إغلاق بالمطلق للصحف الورقية، بدليل أنه وقت ظهور التلفزيون لم تختف الإذاعة كليّاً، خفّ وهجها ولكنّها مستمرة حتى الآن. أما من ناحية التأثير على الواقع الثقافي، فطريقة الكتابة وطريقة تناول المواضيع والمضمون في الصحافة الورقية إجمالاً هو أغنى ويحتوي على معلومات أكثر، وفيه اهتمام بالمعنى أكثر من الصحف الإلكترونية؛ ففي هذه الأخيرة المواضيع تفتقر إلى الغنى والعمق. بالمقابل، الصحافة الإلكترونية تفوّقت بالإمكانات المادية على الصحافة المكتوبة، فشركات الإعلانات تذهب أكثر نحو الصحافة الإلكترونية التي تصل إلى أكبر عدد من الناس، وهذا الأمر يضعف الصحافة الورقية التي تصل فقط إلى قرّاء محدّدين، “الأوفياء للصحافة الورقية”. الأزمة التي واجهت غالبية الصحف الورقية التي أغلقت هي أزمة ماديّة، وبإمكان الدولة تقديم الدعم المادي وإنقاذ هذه الصحف”.
أما الصحافي حسّان الزّين فيعتبر أنّ المواقع الإلكترونية التابعة لصحف ورقية هي مواقع منفصلة عن الصحف التقليدية التابعة لها. رغم انتماء المواقع للمؤسسات ذاتها، إلا أنها ذات عقليّة مختلفة تماماً؛ فهي منتج، والجريدة الورقية منتج آخر. ويوافق الزّين أنّ سوق القراءة ومزجاتها قد تغيّر جدّاً، فأصبحت المواقع مضطرة أن تقدّم مواد لافتة وجذّابة ومغرية وقصيرة وسريعة وخاطفة كي تتمكّن من جذب القرّاء، فهذه تحدّيات إضافية زادت عليها. ويُعتمد الاستخفاف والاستسهال والاسترخاص في بعض الأحيان لجذب القارئ، لكنه يرى أن سوق الإعلانات ترتهن هذا المجال وتشترط عدد معيّن من الزّيارات كي تضع إعلاناتها في المواقع، مما يجبرها على اللهاث على أكبر عدد من الزيارات. كما يعتبر أن معظم المواقع التابعة للصحف الورقية تلتزم بشيء من المعايير المهنيّة.
والجدير ذكره هنا، أنّ غياب قانون واضح مختص بالإنترنت ليس لصالح المواقع الإخبارية الإلكترونية ومستخدمي مواقع التواصل الاجتماعي تماماً. فيُطبّق على تلك المواقع قانون المطبوعات وعلى المستخدمين والمدوّنين العاديّين قانون العقوبات ولكن تتمّ محاسبة كلّ من على الشبكة العنكبوتية في مكتب جرائم المعلوماتية. هذا بالمطلق، عدا عن بعض الاستثناءات. فهذه الهرطقة القانونية هي مجحفة بحق المواقع الإخبارية الإلكترونية، فمن حقها أن تُبتّ الدعاوى المُتعلّقة بها أمام محكمة المطبوعات، حيث يدخل العمل الصحفي ضمن اختصاص هذه المحكمة، فلا تُحاكم في مكتب تابع لقوى الأمن الدّاخلي.
وفي هذا الصدد أضاف الصحافي حسّان الزّين أن من البديهي أن يسري قانون المطبوعات على الصحف الإلكترونية، فالمواقع الإلكترونية تعتبر من وسائل الإعلام، وعلى قانون المطبوعات أن يحكم وسائل الإعلام. فمن الطبيعي أن يغطي المواقع الإلكترونية، ويتم التعامل معها تماماً كالصحف والمجلّات، أي وسائل الإعلام المطبوعة، لأنها ببساطة مطبوعة. المطبوعات ليست ورق وحسب، بل كلّ ما يتعلّق بالصّحافة. كما شدّد على أنه مع تطوير قانون المطبوعات وعصرنته وفسح هامش الحريّة أكثر فيه وإبعاده أكثر فأكثر عن المزاجية السياسية، أي عن الضغوط السياسية التي تحصل على القضاء ومن خلاله على الإعلام. وبالأساس يجب فصل القضاء عن السلطات الأخرى وحمايته من التدخّلات السياسية.
يختلف قرّاء الصحف من مجتمع لمجتمع. ففي لبنان على، سبيل المثال، قراءة الصحف محصورة تقريباً بجزء ضئيل من ذوي العمر المتقدّم. وهم بغالبيتهم من مثقّفي الطبقات الاجتماعيّة الوسطى والغنية الذين اعتادوا قراءة الصحف، وحملها ورقيّاً بالتحديد. فباتت أداة ترفيهية أو مزاجية، إذا صحّ التعبير، بالنسبة إليهم، أكثر مما هي وسيلة حصول على المعلومة الإخبارية. فيتلذّذون بتقليب الصفحات ميكانيكيّاً ويهتمّون بقراءة التحليلات السياسية والمقالات الثقافيّة والفلسفية ذات اللغة المرموقة والمعقّدة. فأصبحت الجريدة الورقيّة “أكسسواراً” تعكس مستوى ثقافي واجتماعي معيّن لشخص قد يحتسي القهوة في أحد المقاهي الفاخرة مع سيجار فاخر، أو ليساري لتعكس يساريّته في مقهى رصيفيّ في شارع الحمرا، أو لمدير أو مسؤول كعنصر يومي على مكتبه بين عدّة الأقلام وجهاز الكومبيوتر. إنّ كلفة الاشتراك بصحيفة ورقيّة تتراوح ما بين 250,000 و500,000 ليرة لبنانيّة تقريباً في السنة. فهي عبء باهظ على غالبية المواطنين هم بالغنى عنه، ويكتفون بالحصول على المعلومات الإخبارية عبر التلفاز أو عبر وسائل مجّانية أخرى. هذا فضلاً عن تراجع ثقافة القراءة في لبنان عن السابق.
تعتبر الصحيفة، في المجتمعات الغربية المتقدمة، مصدراً هامّاً للمقالات العلميّة والبحثية. فلذلك مثلاً، توقّفت جريدة “ذي إندبندنت” عن الصدور ورقيّاً وقرّرت الاستمرار إلكترونيّاً لكن بشكل مهنيّ ممتاز. السبب الرّئيسي هو أنّ الطلّاب والباحثون يعتمدون في بحوثهم على الإنترنت لسهولة الوصول إلى مقالات محدّدة. فتختلف ثقافة استخدام شبكة الإنترنت في البلدان المتقدّمة كإنكلترا عن ثقافة استخدامها في لبنان. فهنالك شيء من الوعي في هذا المجال لتصنيف المصادر على الشبكة وكيفية استعمالها والتحقق من صحّة المعلومات. بينما قد تنحصر غالبية استخدامات الشبكة في لبنان على أمور التواصل والوصول للمعلومة بصرف النظر عن المهنيّة والمصداقية في غالبية الأحيان.
يعلّق الزّين هنا بأن الصحف الورقية اللبنانية لم تتمكن من أن تتطور تطوّر طبيعي من الورق الى الإنترنت. فجريدة النهار، مثلاً، اتخذت قرار بأن تتجه إلى الإنترنت بوصفه مستقبلاً طبيعياً وبديهياً لعدم قدرتها على أن التطور والمحافظة على قرّاءها، فأنشأت “شخصية” جديدة على الإنترنت وانفصلت عن الجريدة الورقية لاعتبارها أنها تتابع الجمهور. بينما وضع جريدة السفير هو مختلف، فاتخذت قراراً بأن تتوقف نهائيّا لأسبابها العامّة المتعلّقة بالإعلانات والتمويل والاقتصاد، وأيضاً لأسباب خاصة متعلّقة بالمؤسسة وظروفها وملكيّتها. كما ويعتبر أن التحدّي الأساسي بوجه الإعلام بشكل عام هو ضعف السوق الإعلانية. وذكر أنّ في فترة التسعينات وحتّى العام 2005، اعتمدت الصحف على التمويل السياسي، وكانت الإعلانات احتكارية، فكان لها بُعد سياسي.
أزمة الصحافة الورقية هي أزمة عالمية، وهي حالة بديهية تزامناً مع التطوّر الطبيعي والتغيّر الجذري في طرق الوصول للمعلومة. الواقع يدلّ على مستقبل رقمي بامتياز، وعلى أصحاب الصحف التكيّف مع هذا الواقع والتصرّف بحكمة وبعد نظر. فيبدو أنّ الصحافة الإلكترونية لم تعد مجرّد خدمة إضافية من الصحيفة التقليدية. فرغم أن كلفة الصحافة الإلكترونية أقلّ من الورقيّة، لكنّها تتطلّب أعباءً وتكاليف أخرى لتقديم مواد احترافية وجذّابة للجيل الجديد، متماشيةً مع طبيعة الإنترنت. قد يكون الانخراط كلّياً بالصحافة الإلكترونية خطوة جريئة، لكنّها على الأرجح واعدة إن تم تطوير مفهوما وطريقة تقديمها. إنّ سهولة إنشاء مواقع إخبارية وقلّة تكلفتها تزيد من نسبة المواقع “الحديثة الولادة” والمواقع الغير احترافية، فبذلك تتيح للصحف العريقة بأن تكسح هذا المجال من خلال استثمار فعليّ تنصبُّ فيه خبرات صحافية مع ميزانيّات كبيرة لاستخدام خبراء في مجال الإعلام والتسويق.