تحقيق: مدرسة عقول حرّة : وجه جديد مشرق للعمل التربوي في لبنان

0

أجرى التحقيق: باسل عبداللّه

في رحاب الهرمل، البلدة الواقعة في شمال البقاع، وعلى بعد حوالي ثلاث ساعات في السيّارة من العاصمة بيروت، يستقبلك صرحٌ تعليمي جديد، غير تقليدي، أسّسته ستّ سيّدات عاملات في الشأن التربوي المحلي في تلك المنطقة، اخترن له اسم: مدرسة “عقول حرّة”.

تقوم المدرسة على نموذج تجديدي في التعليم المدرسي، يبتعد عن أساليب التعليم المبنيّة على التلقين، ليوفّر للتلاميذ مناخًا صحيًّا وصافيًا في البحث وتنمية المهارات والتفكير النقدي، في إطارٍ تعليميٍ شامل يطلق عليه عالميًّا اسم: “التعليم الجديد” أو “التعليم البديل .Education Nouvelle

تُعتبر مدرسة “عقول حرّة” من أوائل المدارس في لبنان التي تنتهج “التعليم الجديد” أو Education Nouvelle  في عملها التربوي. وهذه ترجمة للمصطلح الفرنسي قد تكون حرفيّة، لا يُقصَد بها فكرة الحداثة في التعليم بحدّ ذاته، بل طرق ونوعيّة تعليم مبنيّة على أفكار تربويّة مغايرة للطرق التقليديّة، أرستها حركة تربويّة عالميّة ساهم في نشأتها مربّون ومربّيات وعلماء وعالمات تربية وفلاسفة.

تعتمد فلسفة “التعليم الجديد” على فكر الفيلسوف والأديب الفرنسي “جان-جاك روسو” Jean-Jacques Rousseau ورؤيته للطفولة، وعلى فكر الفيلسوف وعالم النفس الأميركي “جون ديوي” John Dewey وفلسفته في التعليم، وتتعلّق برؤية التعليم بطريقة مختلفة، وقبل كلّ شيء الثقة في الطفل وفي الإنسان.

وقد تميّزت هذه التجربة بعدّة مزايا أهمّها:

التفكير النقدي

التعليم التعاوني

المشاريع العمليّة والتعلّم الاستكشافي والتعلّم التجريبي

العمل على مشاريع لخدمة المجتمع

التعليم من أجل مسؤوليّة اجتماعيّة وديمقراطيّة

مشاريع مواطنين/ات فاعلين/ات في المجتمع

بالعودة إلى بدايات مدرسة “عقول حرّة” في الهرمل، فقد تأسّست في شهر أيلول من العام 2020، بمبادرة من مربّيات وعاملات في الحقل التربوي والتعليم، وناشطات في المجتمع المدني في المنطقة .

وبعد أن كان الملتحقون/ات بالمدرسة في أوّل سنة ٨ تلامذة، أصبح العدد في السنة الأخيرة 165 تلميذًا وتلميذة، في أعمار بين 3 سنوات  11 سنة، من صفّ الروضة الأولى إلى الصفّ الخامس.

تقول مديرة المدرسة وإحدى مؤسِّساتها الدكتورة غصون وَحُّود: هذه السنة سيكون لدينا صفّ سادس وسنتابع الصعود بالصفوف سنةً بعد سنة، حسب إمكانيّات المدرسة المادّيّة وقدرات طاقمها التعليمي، وتضيف: هناك لوائح انتظار لكثير من الراغبين/ات بالانضمام إلى المدرسة، غير أنّ قدرتنا الاستيعابيّة لا تسمح لنا بقبول جميع الطلبات لعدم وجود مقاعد دراسيّة وموارد بشريّة كافية“.

وبسؤالها عن فكرة المدرسة، تجيب الدكتورة وَحُّود: “نحن مدرسة قائمة على فكرة “التعليم الجديد أو البديل Education Nouvelle ” في طرائق التعليم النشط، مع عيش القيم الأساسيّة التي تجعل من التلامذة مشاريع مواطنين/ات فاعلين/ات وتغييريّين/ات في مجتمعهم/ن ». وتردف قائلةً: “إنّ مهمّة المدرسة توفير بيئة تعليميّة آمنة وإيجابيّة ومحفّزة، تتكيّف مع الاحتياجات الفرديّة لكل مُتعلّم/ة”. وتضيف: “تقوم المدرسة بتنمية المهارات المعرفيّة والعاطفيّة والاجتماعيّة للمتعلّمين/ات، وتحاول زرع قيم المسؤوليّة والاستقلاليّة والاحترام والحريّة والمواطَنة والتعاطف والديمقراطيّة والعدالة الاجتماعيّة بين تلامذتها”.

وعن سبب إطلاق هذه المدرسة الفريدة من نوعها في لبنان، في منطقة الهرمل، تقول الدكتورة وَحّود: “قرّرنا إقامة المدرسة في هذه المنطقة لأنّ القرى والأرياف تستحقّ نوعيّة تعليم مميّزة، ويجب كسر الصورة النمطيّة حول أنّ كلّ فكرة جديدة يجب أن تنشأ في العاصمة أو المدينة”. وتضيف: “المعنيّون بالتربية في مناطقنا البعيدة عن بيروت قادرون أيضًا على ابتداع الأفكار المميّزة وإعطاء شكل جديد غير تقليدي لنوعيّة تعليم مغايرة للسائد”، وتضيف أيضًا: “المدرسة تؤمن بأنّ لكلّ طفل الحقّ بأن يكون له نوعيّة تعليم ممتازة “.

كلّنا قادرون

دور المدرسة وفق رؤيتها يتمثّل بتطوير تلامذة مستقلّين/ات، متعلّمين/ات مدى الحياة، مجهّزين/ات بمهارات القرن الحادي والعشرين، وبالمعارف الضروريّة للنموّ والتطوّر، ليكونوا/ليكنّ عاملي/ات تغيير في مجتمعاتهم/ن.

تقول الأستاذة هيام فقيه، إحدى المعلّمات المشاركات في تأسيس المدرسة: “ننطلق في عملنا من مبدأ أساسي هو “كلّنا قادرون” ،tous capables فالكلّ يتعلّم ويتطوّر، وللتلامذة حريّة اختيار الأنشطة والمواضيع والمشاريع التي يفضّلون العمل عليها، وهم/ن يشاركون في الإدارة عبر عيش الديمقراطيّة وممارستها”.

بين الأستاذ المُيسِّر والتلميذ المُقرر

تقوم الأستاذة ريان الجوهري، إحدى مؤسّسات المدرسة، بتيسير عمل لجان الصفوف التي تنعقد أسبوعيًّا في المدرسة، وتقول في هذا الصدد: “في كلّ صفّ دفتر يسجّل عليه التلامذة المشاكل التي تقع بينهم بين الاجتماع والذي يليه، إذا نجحوا بحلّها فيما بينهم يشطبونها عن الدفتر، وإلّا جرى نقاشها في الاجتماع اللاحق. فعلى سبيل المثال، وقعت مرّةً حالة تنمّر بين الأولاد، وقد جرت منقاشتها في لجنة الصفّ، فطرح الأولاد أسبابها ونتائجها واقترحوا الحلول”.

وبسؤالها عن الإشكاليّات التي تواجهها عادةً كميسّرة أثناء الاجتماعات، تقول: “يطرح الأولاد أحيانًا إشكاليّات للمناقشة فيما بينهم/ن بغية البحث عن الحلول المناسبة، ودورنا هو محاولة مساعدتهم/ن في وضع مسار إيجابي ومفيد لنقاشاتهم/ن، وتسهيله دون الانتقاص من حريّتهم/ن في التعبير أو تقليص حقّهم/ن في ممارسة دورهم/ن في هذه الاجتماعات”. وتختم بالقول: “نسعى إلى تخريج مواطنين/ات يفكرون ويحلّلون ويناقشون بعمق ويتحمّلون المسؤوليّة ويقرّرون ويتقبّلون جميع وجهات النظر المتنوّعة على اختلافها، لا مُتلقّين/ات، يحفظ)و(ن دروسهم/ن وحسب!في مدرستنا يعيش الأولاد فعليًّا قيم الحريّة والديمقراطيّة والاستقلاليّة والتعاطف، ويمارسونها في صفوفهم/ن وفي الأنشطة على اختلافها”.

نشاطات فنيّة وثقافيّة وبيئيّة

تخبرنا الأستاذة راميا دندش، المعلّمة وإحدى مؤسّسات المدرسة، بأنّ عمل المدرسة يطال الصعيدين الفنّي والثقافي، فالمدرسة شريكة بتنظيم مهرجانات وعروض مسرحيّة وفنيّة وثقافيّة، وتسعى لإتاحة الفرصة أمام الجمهور في المنطقة للوصول لهذا النوع من النشاطات، كما تعمل مع التلامذة على فنون متنوّعة، منها تقديم عروض فنيّة، وهذا يساهم في صقل مواهبهم/ن. ومن المشاريع البيئيّة التي عملت عليها المدرسة، بحسب الأستاذة دندش، مشروع “الزراعة المستدامة” Permaculture ، وهو مشروع مدعوم من قبل “المعهد الفرنسي في لبنان” Institut Français du Liban وجمعيّةMake Sense” ” وحركة “نفضة”. وهو مشروع زراعة مستدامة لخضروات متنوّعة، يعمل التلامذة بأنفسهم/ن على زراعتها وحصادها وبيعها، كما يكتسبون المعلومات الأساسيّة حول أهميّة هذه الزراعات، وكيفيّة تعايش هذه النباتات مع بعضها البعض. وتقول دندش: “انطلقنا من عرض هذا المشروع مع الأولاد من فكرة أنّنا كبشر يجب أن نتعاون ونقبل التنوّع ونقدّر أهميّته، واكتشاف كيف يمكن أن يعطي إنتاجًا أفضل”، وتضيف: “قرّر التلامذة توظيف عائدات بيع الخضروات في شراء عدّة الكومبوست”.

الحلم يكبر بأجيال من العقول الحرّة

يكبر الأمل بالعقول الحرّة التي تستقبلها وترعاها وتحثّها مدرسة «عقول حرّة » في الهرمل على اكتساب العلم بشغف، وعلى التفكير المنطقي والحرّ، وعلى تعزيز الحسّ النقدي. في بلد مثل لبنان، لا حاجة قد تضاهي الحاجة إلى تخريج مواطنين/ات يعرفون حقوقهم/ن ويدركون واجباتهم/ن ويسعون/ين بجدّ إلى تحمّل المسؤوليّة وتطوير قدراتهم/ن.

يكبر الحلم بأجيال من الشابّات والشبّان الواعين والمسؤولين والمشاركين في القضايا والقرارات الاجتماعيّة والاقتصاديّة والسياسيّة والثقافيّة والبيئيّة التي تهمّ أبناء وبنات وطنهم/ن.

Share.

About Author

باسل عبدالله - مسؤول تحرير مجلة تواصل مدني

Comments are closed.