مقالة: نعمه نعمه
المرحلة اليتيمة التي ظهر فيها عقد اجتماعي تربوي متكامل كانت في عهد الرئيس فؤاد شهاب، وتحديدًا بعد تقرير بعثة “إرفد” `. المحاولات التي سبقت تقرير الأب “لوبريه” 2 لم تكن كافية لتؤثّر في البنية المجتمعيّة الطائفيّة التي أرساها الحُكمَين العثماني والفرنسي بل وضعت الطوائف والدولة الفتيّة في صراع تمظهر على شكل نزاعات حادّة بداية الخمسينات بين المدارس الطائفيّة من جهة وسيادة الدولة على التعليم وإنصاف المعلمين/ات في القطاع الخاص من جهة أخرى.
تفادى الرئيس شهاب المواجهة المباشرة مع الطوائف وعمل على بناء مؤسّسات الدولة مستندًا إلى مقاربة الأب “لوبريه” في إحداث ثورة فكريّة وخُلُقيّة لتحقيق الإ نماء، من خ لال شعار يعكس رؤيةً ل”إ نماء كلّ إنسان وكلّ
الإنسان”، شاركه فيها المطران غريغوار حدّاد والحركة الاجتماعيّة. وكان لتلاقي القرار السياسي مع الفكر والأدوات والمؤسّسات الرسميّة دورًا في توليد عصر ذهبي، لاسيّما في التعليم والحوكمة والتنمية المجتمعيّة والاقتصاديّة.
لا شكّ أنّ وضع رؤية إ نمائيّة أوّلًا فرضت سياق ما تبعها من تدابير، وخرج عن السياقات المعتمدة في معالجة الأحداث، والأ نماط السائدة في المؤسسات، والتشريعات المشوّهة المستندة إلى عقليّة وسياسات طائفيّة واستعماريّة
دون رؤية إنسانيّة واضحة، فقد أعاد ترتيب الأولويّات بوضع رؤية “إنماء كلّ إنسان، كلّ الإنسان” على رأس الهرم وبوضع الإنسان هدفًا، فكان لا بدّ من توفير الإطار المؤسّساتي لتحقيقه، وفي قلبه كان التعليم، كأحد أهمّ محاور التنمية المجتمعيّة ورافع إ نماء المجتمع ومستقبله.
بناء قطاع التربية وأنسنته
ولأنّ “إنماء كلّ إنسان، وكلّ الإنسان” كان عمود تقرير بعثة “إرفد”، سعى عهد الرئيس شهاب إلى وضع سياسات وتشريعات تقدّم نموذجًا متقدّمًا للتنمية الشاملة، كان التعليم أحدها، حيث لا تنمية ب لا عدالة وإنصاف، وتنمية ريفيّة، وتنمية الفئات المهمّشة والضعيفة والمهدّدة، إلخ، كان لا بدّ من إشراك النخب الفكريّة والحركات المجتمعيّة الفاعلة والمتطوّعين/ات في ورشة عمل أفضت إلى وضع إطار تشريعي شامل في مختلف الميادين الأساسيّة، كالتعليم والصحّة والتقديمات الاجتماعيّة، والحوكمة والمحاسبة، بناءً على قيم العدالة والإنصاف والإستدامة والحقوق والقيم الإنسانية والحوكمة وضمنتها في القوانين.
فهم الساسة والمشرّعون آنذاك دور التعليم في التنمية المستدامة ومستقبل المجتمع فأولوه الأفضليّة على غيره من المجالات، إضافةً إلى مؤسّسات الدولة والحوكمة وأنظمة الرعاية، فتبنّي النخب السياسيّة
مقولة الأب “لوبريه” بضرورة “إحداث ثورة فكريّة وخلقيّة لتحقيق الإنماء” كانت حاضرة في المشروع التعليمي، وهذا ما حدث. شعار “إ نماء كلّ إنسان” حضر في التشريعات وخارجها؛ في قانون إلزاميّة التعليم للمرحلة الابتدائيّة، كما في التعليم خارج النظام التعليمي كالتربية على المواطنة، وتعليم المتسرّبين/ات والأميّين/ات، والفئات المهدّدة والمهمّشة في نظام مكمّل للتعليم الرسمي، قدّمه متطوعو/ات الحركة الاجتماعيّة في الأرياف والمناطق المهمّشة، وفي نشر المدارس الرسميّة وتأهيل المعلّمين/ات وتدريبهم/ن، وإنشاء دور المعلّمين/ات وكلّيّات جامعيّة، إضافةً إلى إنشاء
نظام حماية اجتماعيّة واقتصاديّة، ومنح تحفيزيّة لدفع العامّة والموظّفين/ات إلى تعليم أولادهم/ن.
كان لهذه الأعمال أثر كبير في رفع أهليّة المجتمع الثقافيّة والعلميّة وانعكس أيضًا على مستوى دخل الأفراد والدخل الوطني في الستّينات، كما كان له انعكاس كبير على صورة الدولة ومؤسّساتها التي كانت متميّزة بأداء موظّفيها، وعلى الدافعيّة للعمل الاجتماعي والتطوّعي في مختلف الميادين، فقدّمت مساهمة أساسيّة في رفع مستوى النخب العلميّة والثقافيّة وإنماء الأرياف.
ما أُنجِز حينها صورة لعقد اجتماعي بين الدولة ومواطنيها عبر مؤسّساتها، بالشراكة مع المجتمع المدني والأهلي؛ عقد أكثر عدالة وإنصافًا، يؤمّن ديمومة الدولة من خلال سلّة من التقديمات الاجتماعيّة والمعرفيّة والثقافيّة لتنمية الإنسان، وقد كانت حماية هذه التقديمات بالقوانين والآليّات، ممّا أحدث تغييرًا مؤثّرًا في العقليّة والانتماء الوطني والحياة المدنيّة والسياسيّة، بالرغم من بقاء آثار طائفيّة في العديد من الجوانب.
رفعت التشريعات والآليّات والأعمال عامّة من قيمة الإنسان وقدّمت له حياة أكثر رفاهيةً وعدالةً وإنصافًا، وعملت بصورة مباشرة وغير مباشرة على تطوير مفاهيم المواطنيّة وعزّزت الانتماء الوطني على حساب الانتماء الطائفي، كما رفعت من قيمة التعليم الرسمي وجودته إلى مستويات تنافسيّة عالميّة، ممّّا عزّز بدوره الاقتصاد والصناعة والزراعة وفتح أبوابًا إضافيّة للتعلّم والعمل في الخارج.
نستنتج ممّا حقّقه عهد الرئيس شهاب دور وأهميّة التعليم الرسمي وبناء المؤسّسات وأثرهما على المجتمع والاقتصاد والمعرفة والثقافة، إلّا أنّ ثغرات أساسيّة شابت مشروع الدولة حينذاك، حيث لم يتعرّض الرئيس شهاب إلى المؤسّسات الطائفيّة وتفادى مواجهتها، فعملت على توسعة سلطانها. بعد ولايته الأولى وفي خطاب عزوفه عن الترشّح عام 1970 أوضح شهاب أنّ تجربته في السلطة قد أقنعته أن شعب بلاده “ليس جاهزًا ليتخلّى عن العقليّة الإقطاعيّة والاقتناع بأهميّة بناء الدولة الحديثة”. ليست العقليّة الإقطاعيّة إلّا امتدادًا لإقطاع الطوائف الذي أرساه الحكم العثماني والانتداب الفرنسي، أمّا الإشارة إلى الدولة الحديثة فيكوّن، بمفردات هذا الزمن، مفهوم المواطنيّة ودولة القانون.
تتحكّم السلطات الطائفيّة بمفاصل لبنان الأساسيّة، فالنجاح المؤقّت في بناء مؤسّسات الدولة لا يعني النجاح في بناء مواطنين/ات، وهنا يكمن جوهر الصراع بين الطوائف والوطن/الدولة. فالطوائف التي تشدّد على “الرعيّة” عوضًا عن “المواطنين/ات” نجحت في السيطرة على جماعاتها باستبدال المواطنيّة وعمل المؤسسات الرسميّة، التي تخلق حلقات خدمات وحماية متماسكة، بمؤسّسات تخدم جماعاتها، في الرعاية الصحيّة والتوظيف والتربية والتعليم العالي، ودور الأيتام، والمصارف والضمان والتجارة، بالإضافة إلى مساحات هائلة من أم لاك الوقف والأم لاك الخاصّة
بالطوائف. وطبعًا يتحكّم رجال الدين بالخليّة الاجتماعيّة الصغرى، أي العائلة، من خ لال قوانين الأحوال الشخصيّة من الولادة والزواج حتى الوفاة والإرث، إضافةً إلى هالة القدسيّة التي يحيطون بها أنفسهم. لم ينجح شهاب في “تحرير المسيح من الكنيسة-المؤسسة” )ينطبق على
الأديان الأخرى( كما عبّر المطران غريغوار حدّاد، فالرئيس شهاب لم يسعَ إلى “تأميم” المسيح )أو الأنبياء( لكنّه سعى إلى تأميم التعليم، وهو أحد أهمّ مفاصل السيطرة على الجماعات وخلاياها الصغرى، أي العائلات، بينما حافظت الطوائف على مؤسّساتها وخدماتها وتعاظمت بعد ولايته. وكما هو معلوم، التعليم في المؤسّسات الطائفيّة لا يبني
مواطنين/ات بل رعايا وخدّامًا للطائفة، وربما جيوشًا. ويشكّل التعليم إحدى حلقات سلسلة السيطرة على الجماعات، إلى جانب الخدمات الأخرى، وتعتبر الطوائف المسّ بأيّ من هذه الحلقات مسألة وجوديّة. اليوم، تشير دراسات تربويّة أمميّة، تستند حصرًا إلى مؤ شّرات مدرسيّة، إلى أنّ متوسّط “التعليم على الطاعة” في لبنان متدنٍّ بالمقارنة مع العديد
من الدول العربيّة. فالطاعة في الممارسات التعليميّة في المدارس الخاصّة/الطائفيّة في لبنان تحديدًا عالية جدًّا، وتتجاوز المؤ شّرات المدرسيّة البحتة، كالتلقين والحفظ والتعليم الديني وغيرها، إلى مناهج خفيّة تقدّم الطوائف من خلالها الحماية الشاملة لرعاياها، والتحكّم باحتياجات المواطنين/ات الأساسيّة لتكريس الطاعة. ولا يمكن فهم مستويات تأثير المناهج الخفيّة التي تعلّم الطاعة وروابط الخضوع الاجتماعي مع الطائفة إلّا من خلال المنظومة الاجتماعيّة والتربويّة والثقافيّة والاقتصاديّة والتشريعيّة والعائليّة التي أرستها الطوائف بوسائل مختلفة، حيث تكوّن
المدارس الطائفيّة لدى المواطنين/ات مفاهيم عدائيّة، مثل عدم التسامح والخوف من الآخر والانغ لاق والخضوع والتمايز، كما تشكّل وقودًا للميليشيات الطائفيّة والحروب الأهليّة.
أوضح مثال على فرض الطاعة هو زرع مساحات في المدارس الطائفيّة لممارسة طقوس دينيّة، أو تخصيص نشاطات خاصّة لأعياد ومناسبات دينيّة، أو مزارات وصور لقدّيسين وشهداء وشعارات وأناشيد وغيرها ،
كما هو الحال في المساحات العامّة والشوارع والبلدات والساحات .
لهذه المساحات في المدارس أهداف ثلاثة على الأقلّ: الأول إظهار الانتماء لجماعة دينيّة أو الولاء لشخصيّة سياسيّة-طائفيّة، الثاني بيان العفّة والقداسة الإلهيّة أمام المجتمع واستمداد السلطة المعنويّة لإخضاع التلامذة وذويهم، والثالث تكريس حقيقة بصريّة في الوعي وال لاوعي لدى التلامذة، مرجعها إلهي، تجعل الانتماء للمؤسّسة الطائفيّة عادة يوميّة وثابتة، وهو بمثابة ترويض تمهيدًا لما سيعيشه في الحياة الحقيقيّة خارج المدرسة وداخل الحدود الجغرافيّة لكلّ جماعة، لما لها من تأثير على الحياة السياسيّة وخيارات الجماعات مستقبلًا.
يتمّ داخل المدرسة إعداد التلميذ/ة للتبعيّة للحلقة الأكبر بصورة المرجع أو الحزب ومؤسّساتهما، كالمستشفى الطائفي والأحوال الشخصيّة الطائفيّة والاحتفالات والتجمّعات الدينيّة والسياسيّة، وصولًا إلى الميليشيا التي تحشدهم وقودًا للحروب الأهليّة عند الحاجة لقتال جماعة أخرى “حمايةً” لجماعتهم. ولا يتم إعداده كمواطن حرّ ولا يسمح له بأيّ شكل من الأشكال تطوير وتعزيز استق لاله عن الأعراف السائدة أو تطوير الحس النقدي والفنون والعلوم الإنسانية والحوار المتنوع والتسامح والمسؤولية المدنية، بل تُقدّم التربية الوطنيّة والمسؤوليّة المدنيّة والعلوم الإنسانيّة كامتداد للمفاهيم الدينيّة أو العقائديّة للجماعة، والفنون كوسيط احتفالي للطقوس الدينيّة. هذا السلوك يشمل غالبيّة المدارس