إذا تصفحت معظم المواقع التي تتناول موضوعَي الأبوفينيا (Apophenia) والباريدوليا (Pareidolia) أو كما يُعرَف باللغة العربية ﺑ “الاستسقاط”، فكل ما ستجده هو مجرد تعريف لهما مع تصنيفهما ضمن خانة خلق نوع من الوهم البصري أو الذهني أو خطأ التصور، ولكن في هذا المقال سأقدم وجهة نظر مختلفة عبر إلقاء الضوء على تعريف هذين المفهومين مع تبيان أهمية تسخير هذين المفهومين بطريقة إيجابية وعملية ومنطقية ضمن سياق عملية التفكير خارج الصندوق للتوصل إلى استنتاجات مثمرة عبر ملاحظة أنماط متباعدة غير مترابطة ظاهرياً، بعيداً عن هوس نظريات المؤامرة وهوس الخوارق الطبيعية.
الأبوفينيا أو الاستسقاط (Apophenia)
عرّفت ويكيبيديا الاستسقاط على أنه محاولة ربط عدة أحداث أو أشياء منفصلة لا رابط يجمعها لتحميلها معنىً جديداً ليس من أصل أي من الأحداث أو الأشياء نفسها كنوع من إضفاء الصفة العلمية أو المصداقية عليها أو إعطائها أهمية تفوق حجمها الحقيقي. وقد صيغ هذا المصطلح في عام 1958 من قبل كونراد كلاوس (Klaus Conrad)، وهو طبيب أعصاب وطبيب نفساني ألماني (حزيران 1905 – آيار 1961) انضم إلى الحزب النازي في العام 1940، وله كتاباته المختصة في انفصام الشخصية.
وقد عرّف كونراد كلاوس “الاستسقاط” بأنه “الصِلات التي لا مبرر لها” متبوعة “بمقاصد غير طبيعية لتجربة معينة”، لكنه تحدّر لتمثيل ميل الإنسان إلى البحث عن أنماط في الطبيعة العشوائية بشكل عام، كالقمار، والظواهر الخارقة، والدين، وحتى في محاولات التأملات العلمية.
في عام 2008، صاغ مايكل شيرمر كلمة ‘النمطية’ بأنها “ميل للعثور على أنماط ذات معاني في ضجيج لا معنى له”. في كتابه العقل المؤمن (2011).
ومايكل برانت شارمر (Michael Brant Shermer) هو صحفي أميركي وُلِد في كاليفورنيا عام 1954 وهو مختص في العلوم وتاريخها، وهو مؤسس جمعية الارتياب العلمي ورئيس تحرير مجلة سكابتيك (Skeptic) والتي تكرس جهودها في التحقيق وكشف العلوم الزائفة وادعاءات خوارق الطبيعة، وتضم الجمعية في صفوفها اليوم أكثر من 55 ألف عضواً.
الباريدوليا (Pareidolia)
الباريدوليا كلمة يونانية الأصل وتعني “بارا” أي إلى جانب، و”دوليا” تعني الصورة أو الشكل. هو نوع من الاستسقاط البصري والتي تشمل تخيل الصور أو الأصوات بسبب محفزات عشوائية، على سبيل المثال، سماع رنين الهاتف أثناء الاستحمام، إذ ان الضوضاء الناتجة عن المياه الجارية تسبب خلفية عشوائية تتسبب في إنتاج النمط الصوتي لرنين الهاتف. والتجربة الإنسانية الأكثر شيوعاً هي تخيل رؤية الوجوه في الجمادات، فالناس حول العالم بإمكانهم رؤية “رجل في القمر”، رؤية صور لأوجه أو حيوانات في الغيوم وسماع رسائل مخفية على التسجيلات التي يتم تشغيلها معكوسة. بالإضافة إلى رؤية وجوه الشخصيات الدينية كاسم الله أو صورة السيد المسيح أو الإله الهندوسي جانيش في قطعة من الخبز المحمص، أو محفورة على قطعة خشبية، أو في نصف حبة بطاطس.
من أشهر الأمثلة ظاهرة باريدوليا بالرسم هي صورة الوجه التالية، حيث أنك عندما تنظر إليها سوف تعتقد أنها وجه ولكنها في الحقيقة دائرة كبيرة داخلها دائرتين بالحجم الصغير وخط.
كما يمكن ملاحظة ظاهرة الباريدوليا في الغيوم في الصورة التالية:
الفائدة التطورية للباريدوليا
يرى كارل ادوارد ساغان (Carl Sagan) (1934-1996) وهو فلكي وكاتب أمريكي، ومن أبرز المساهمين في تبسيط علوم الفلك والفيزياء الفلكية وغيرها من العلوم الطبيعية، وكان له دور رائد في تعزيز البحث عن المخلوقات الذكية خارج الكرة الأرضية، بأن ظاهرة الباريدوليا نشأت لتساعد البشر على التعرف على الوجوه البشرية في جزء من الثانية، الأمر الذي يُعدّ مفيداً من وجهة نظر تاريخية وتطورية حيث أن البشر بحاجة للتعرف على الحلفاء والأعداء في سرعة ودقة. وقد كتب قائلاً:” في اللحظة التي يتمكن فيها الطفل الوليد من الرؤية يبدأ مباشرة في التعرف إلى الوجوه، ونحن نعلم أن هذه المهارة هي راسخة ومتجذرة في عقولنا منذ نعومة أظفارنا، برغم أن أولئك الأطفال الرضع الذين عاشوا منذ مليون سنة مضت لم يتمكنوا من التعرف على الوجوه وكانوا لا يبتسمون لها، وكانوا أيضاً أقل عرضة لكسب قلوب والديهم، وأقل احتمالاً للنجاح، وفي هذه الأيام فإن كل الأطفال الرضع تقريباً لديهم سرعة في تحديد الوجوه البشرية، والاستجابة للابتسامات الحنونة”.
هناك بعض الحالات التي قد يفقد فيها الشخص قدرته على التعرف على الوجوه كما في حالة بعض الأورام والجلطة الدماغية فيُصاب بما يعرف ﺑ “البروسباجانوسيا” (Prosopagnosia) أو عمى الوجوه، وفي حالات أخرى يولد الأشخاص (2% من المصابين) مصابين بهذا المرض الذي ينجم عن خلل في نمو الدماغ، تحديداً في الجزء المسؤول عن تخزين الذاكرة البصرية حتى تكون مرجعاً في المستقبل.
عمى الوجوه هو مرض يجعل المصاب غير قادر على تحديد الوجوه، ليس وجوه الغرباء فقط بل أيضاً الأشخاص الذين يراهم بشكل يومي، كأصدقائه وأقاربه، وحتى لا يستطيع التعرّف على وجهه الخاص (Self-Recognition). كما لا يقدر على فهم تعبيرات الوجه، أو تحديد المرحلة العمرية، كما يجد صعوبة شديدة في استحضار الذكريات البصرية.
إن بعض علماء النفس يشجعون ممارسة (الباريدوليا) كوسيلة لفهم المرضى، على سبيل المثال، تُطبّق الباريدوليا في اختبار بقعة حبر رورشاخ وهي بقع من الحبر السائل تنثر على الورق ومن ثم تطوى الورقة لكي نحصل على شكل مختلف ومتناظر، فيختلف البشر في تفسيره ما يرونه ولكن قد تكشف شيئاً عن تصوراتهم وأفكارهم وربما تعكس شخصيتهم وحالتهم العقلية.
الوجه الإيجابي للأبوفينيا
يتم التركيز فقط على الجانب السلبي للأبوفينيا كونها نوع من التنميط أي الربط بين أنماط متباعدة للوصول إلى استنتاج معين، فيُعتقَد بأن هذا النوع من الربط الوهمي بين الأشياء والأمور والمواقف قد يدفع الناس إلى التشاؤم مما يسبب إهمال أعمالهم وبالتالي الفشل المحتم، إذ قد يعمدون إلى تهويل الأمور وتضخيمها عن حجمها الطبيعي فيقعون في فخ نظريات المؤامرة، أو يركزون على تتبع أحداث مشابهة قد تكون محض صدفة لا أكثر.
ولكن للأبوفينيا جانب إيجابي أيضاً، إذ يبذل العلماء الكثير من الجهود لقياس جانب الإدراك من الاستسقاط، بعد أن كانوا سابقاً متحيزين ضد الاستسقاط كنوع من التفكير، لاعتقادهم أنه يتناقض مع العلم الجيد، ولكن مع البحث سوف يتم ربط الاستسقاط مع الذكاء والانفتاح.
بالطبع الكثير من الاستسقاط قد يكون خطيراً، فقد تخطىء تعريف الأشياء بشكل متكرر، وبذلك تخاطر بالجنون الفعلي، والجانب المهم من الإبداع هو الموازنة بين التطرف للانفتاح والذكاء، مع ميل إلى إدراك الأنماط التي تكون أساسية في الانفتاح.
يرى مايكل شارمر في محاضرته “النمط وراء خداع النفس” (the pattern behind self-deception) على منصة “Ted-Talks” بأننا نحن كائنات باحثة عن النمط، نحن نربط النقاط: النقطة أ مرتبطة بالنقطة ب، والنقطة ب بالنقطة ج. وفي بعض الأحيان تكون النقطة أ مرتبطة فعلاً بالنقطة ب، وهذا ما يسمى بالتعلم العلائقي. وفي عملية التنميط نقترف نوعين من الأخطاء، النوع الأول الإيجابي الزائف وهو الاعتقاد بوجود النمط عندما لا يكون موجوداً، والنوع الثاني من الاخطاء هو السلبي الزائف وهو عدم تصديق وجود نمط عندما يكون موجوداً بالفعل. فمثلاً إذا كنت تتمشى في مكان ما، وسمعت حفيفاً بين الاعشاب، ستفكر كالتالي: “هل هو حيوان مفترس خطر، أم أنها الرياح؟”. إن قرارك التالي قد يكون أهم القرارات في حياتك، إن اعتقدت أن الحفيف بين الأعشاب هو لحيوان مفترس خطر وتبين أنها الرياح فقد ارتكبت خطأ في الادراك وتكون قد ارتكبت خطأ من النوع الأول، الإيجابي الزائف. ولكن لا ضرر هنا فقط إن ابتعدت بعيداً وكنت أكثر حذراً وأكثر يقظة. من جانب آخر، إن اعتقدت أن الحفيف بين الأعشاب ليس سوى الرياح وتبين أنه حيوان مفترس خطر فقد كنت أنت الغداء، وبالتالي تكون قد ارتكبت خطأ من النوع الثاني، السلبي الزائف.
أما وفقاً لبيتر براغر (Peter Brugger) من قسم الأعصاب في المستشفى الجامعي في زوريخ، “فإن الميل إلى رؤية الروابط بين أشياء أو أفكار تبدو غير ذات صلة، يربط بشكل وثيق الذهان إلى الإبداع … الاستسقاط والإبداع يمكن النظر إليهما باعتبارهما وجهين لعملة واحدة “. وتشير أبحاث براغر أن مستويات عالية من الدوبامين تؤثر على الميل إلى إيجاد معنى وأنماط وأهمية حيث لا يوجد فعلاً، وأن هذا الميل يرتبط إلى الميل للاعتقاد في الخوارق.
إن أدمغتنا هي آلات لكشف النمط التي تربط بين النقاط، مما يجعل من الممكن الكشف عن علاقات ذات معنى بين وابل من المدخلات الحسية التي نواجهها. من دون عملية خلق المعنى هذه، سنكون غير قادرين على تقديم تنبؤات حول البقاء والتكاثر. وبالتالي فإن العالم الطبيعي والتبادل الفردي من حولنا سيكون فوضوي للغاية. إن إدراك الأنماط في اللاوعي يحدد تنوعا ًمن العمليات الآلية، متضمناً هذه الآليات التي نربطها بتوقعات دقيقة أو حاسة سادسة. بالتالي فإن الإحساس بالخطر في نطاق المواجهة أو أن “نعرف” بشكل مفاجئ أن شريكنا يخدعنا أو أن صديقة ما حامل هي أمثلة عن أنماط ركّبناها بأكملها بشكل لا واعي، مما يجعلنا نحس بهذا الشعور الباطني وكأنه وليد الاستبصار.
والحياة كما نختبرها ليست فقط عبارة عن أحداث وأفكار غير مترابطة، بل هي عبارة عن سرد مترابط يتفكك تدريجيا ًفي كون منتظم. وبالتالي فإنه علينا أن نتمتع بالإدراك الكافي لملاحظة الأنماط المختلفة ودراسة إمكانية الربط بينها، وأن نتمتع بالتفكير النقدي للتمييز بين ترابط الأنماط الذي نخلص منه إلى نتيجة مثمرة، وبين عملية التنميط السلبية التي تؤدي بنا إلى الذهان أو الشعور بالاضطهاد، لكي لا نقع في خطأ النوع الأول الإيجابي الزائف فنعتقد بوجود النمط عندما لا يكون موجوداً، أو نرتكب خطأ النوع الثاني السلبي الزائف فلا نصدق وجود نمط عندما يكون موجوداً بالفعل.