مجلة تواصل مدني العدد 17 – نفايات لبنان: بين أزمة السلطة ومآل الحراك

0

تحقيق أديب محفوض وعلي الحمود وريما منصور

12

كأن اللبنانيين لا يكفيهم أن يكون نظامهم السياسي ولّاد أزماتٍ حتى تُضيف إليها السلطة المأزومة دائماً المزيد منها. فها هي أزمة النفايات تُطبق على أنفاس اللبنانيين، هذه الأزمة التي ليست إلا صناعة السلطة بمختلف أطيافها، إما لغاية نيل حصّةٍ من ذهب عائداتها، أو إهمالاً وعدم اكتراث لأبسط واجبات من يتولًى إدارة شؤون ومصالح الناس.

إن ازمة النفايات التي يشهدها لبنان ابتداءً من صيف العام 2015، ليست وليدة هذه الفترة بل هي نتيجة فشل الحكومات التي توالت على الحكم في لبنان قبل وبعد الحرب الأهلية اللبنانية، في إيجاد الطرق المناسبة للتعامل مع النفايات، كما هو الحال مع الدول المتقدّمة.

ويعود السبب الرئيسي لنشوب الأزمة الحاليّة إلى تقاعس شركة سكر للهندسة (سوكلين) عن تسبيخ وتدوير النسبة المتفق عليها من النفايات التي كانت تنقل إلى مطمر الناعمة، فبنهاية الأمر كانت نسبة ما تم تسبيخه 20%، فيما النسبة المتفق عليها تصل الى 60%.

ويرد الخبير البيئي الدكتور عدنان ملكي أسباب الأزمة إلى الفساد بالدرجة الأولى، وعدم الشعور بالمسؤولية من قبل الجهات المعنية، وهم: البلديات بشكل أساسي ووزارتي البيئة والداخلية، لأنهم فعليا هم المسؤولون حسب الدستور والمراسيم والقوانين. والمسؤولية الأولى تقع على عاتق البلديات ثم على الوزارات المعنية.

وكالعادة، لم يهتم اللبنانيون بهذه الأزمة، فلم تعني لهم شيئا، حيث كان مطمر الناعمة يتحمل هذه الكمية الهائلة من النفايات، إلا أنْ أقفل هذا الأخير في 17/7/2015 مع انتهاء عقد شركة سكر مع الحكومة اللبنانية، فطرقت النفايات أبوابهم.

مراحل تطور الأزمة

المشكلة انفجرت، وغرق اللبنانيون وسط جبالٍ من النفايات التي تكدست في الطرقات. إلا أن هذه الأزمة لم تكن مفاجئة، إذ كان مُتوقعاً ذلك مع انتهاء عقد سوكلين، والتي لم تلتزم بكامل بنوده، حيث ينص على إجراء فرز وإعادة تدوير النفايات المنزلية ومعالجتها. ورغم أنها تعهدت بطمر 20% من العوادم فقط، إلا أنها كانت تقوم بطمر حوالي 80% من هذه النفايات دون معالجة، فضلاً عن الاسعار الخيالية ذات الطابع الاحتكاري في العقود المبرمة مع الدولة.

وقد تلازم انتهاء عقد سوكلين مع إقفال مطمر الناعمة الذي ابتلع أكثر من عشرين مليون طن من النفايات ووصل حد التخزين الأقصى، ما جعل الأهالي يعتصمون ويتظاهرون، فأقفل رمزياً ليعاد فتحه وتمديد العمل لستة أشهر إلى أن أقفل المطمر في السابع عشر من تموز، مسبباً أزمة نفايات كارثية.

وما زاد في تفاقم الأزمة، لامبالاة السلطة السياسية والمراوغة التي اعتمدتها في إيجاد الحلول المناسبة. فقد حاولت تمرير حلول غير ملائمة للمعايير البيئية، وقائمة على المحاصصة والصفقات الفاسدة، فضلاً عن التهرب من المسؤوليات كما فعل وزير البيئة محمد المشنوق بالتنحي عن اللجنة الوزارية المُكلّفة معالجة الأزمة.

ولا يرى الدكتور ملكي أي تغيير في سياسات السلطة في هذا المجال، والتي استمرّت في إتباع نفس المنهج التي كانت تتبعه سابقا. فالحل الذي اعتمدته هذه الاخيرة في مواجهة الأزمة يردّه الخبير ملكي إلى عدة مراحل:

أن أول حل اعتمدته السلطة هو خطة الوزير شهيب، وهي عبارة عن نسخة جديدة مستنسخة عن خطة التسعينات والتي كان وقتها شهيب وزيرا للبيئة. الآن، الخطة مدتها سنة ونصف بدلاً من ثلاث سنوات، وكل ما تغير هو عدد السنوات.

والمشكلة في هذه الخطة بحسب الدكتور ملكي هي أنها مبنية على الافتراضات، فكيف للمواطن أن يثق بهذه الخطة، وهو لا يستطيع أن يقيّم الأمور حسب التجربة السابقة، حيث هناك نفس الوعود ونفس الخطة ولكن شيئا لم يحدث.

وأخذت السلطة تنتقل من خيار سيء إلى أسوأ، إلى ان اتخذت قرار التصدير إلى الخارج. فمن دون أي إعلان أو مناقصة أو حتى استدراج عروض، قررت الحكومة التعاقد مع شركتين لتصدير النفايات إلى الخارج، دون مراعاة أحكام قانون المحاسبة العمومية، بل اعتمدت على عروض رجال أعمال، لتختار عرضين دون أن تذكر أسباب رفض العروض الباقية ولا المعايير التي اعتمدتها. ولكن تمّ لاحقاً إلغاء المناقصات، وبدأ الوزير أكرم شهيب، مكلفاً من مجلس الوزراء بدلاً من الوزير محمد المشنوق، دراسة إمكانية انشاء مطامر في المناطق اللبنانية بحسب التوزيع الطائفي.

وللتخلص من النفايات في المناطق الواقعة خارج نطاق عمل سوكلين، لجأت الدولة إلى الرمي العشوائي في المكبات والحرق، الأمر الذي شكل تهديدا جدياً للصحة العامة بسبب انتشار الأوبئة والحشرات وتلوث المياه والهواء.

نتائج أزمة النفايات

 لأزمة النفايات التي شهدها لبنان ابتداءً من صيف العام 2015 نتائج كارثية على الصعيد السياسي والاقتصادي والبيئي. فكما هو معروف فإن للنفايات أثاراً بيئية خطرة ومدمرة، فتراكم النفايات على جوانب الطرقات وفي الحاويات بشكل كبير كان السبب الأساسي لانتشار كل أنواع البكتيريا والجراثيم والفطريات، وبالتالي للإصابة بالعديد من الأمراض. فضلاً عن حرق النفايات في عدد كبير من المناطق وهذا ما أدى إلى تداعيات خطيرة جداً

فحرق النفايات يؤدي إلى انبعاث غاز أول أوكسيد الكربون وهو غاز من دون رائحة. أما تبعات دخول هذا الغاز في الرئة فخطيرة جدا. فهو يمنع وصول الأوكسجين إلى أطراف الجسد والدماغ والقلب.

إضافة إلى انبعاث غاز الديوكسين: السم القاتل البطيء. وهو مادة مسرطنة. واستنشاق هذه الغازات أو تعرّض الجسد لها يؤديان إلى الاصابة بسرطان الكبد والرئة والالتهابات الجلدية وضمور في العضلات واختلال في عمل الكبد وارتفاع ضغط الدم. وتعتبر سببا رئيسياً للعقم، حيث ثؤثر على الجنين والخصوبة فمن الممكن أن يولد الطفل وعضوه التناسلي غير مكتمل في بعض الحالات وهذا من التأثيرات الأساسية لاستنشاق دخان حرائق النفايات. بالإضافة إلى انبعاث أكسيد النيتروجين، الرصاص، الزئبق والمعادن الثقيلة وغيرها من المواد السامة. وقد أثبتت دراسة علمية حديثة أن الحرق يؤدي إلى زيادة المسرطنات بنسبة 2300%.

وفضلاً عن مشكلة حرق النفايات وتكدسها، هناك أضرار ومشاكل ناتجة عن المطامر العشوائية والغير صحية، فهي تؤذي التربة والمصادر المائية السطحية والجوفية بالإضافة إلى انبعاث مواد سامة متبخرة كغاز الميثان وثاني أوكسيد الكربون. (كمطمر الناعمة وما نتج عنه من أمراض خطيرة أصابت سكان منطقة الناعمة ومحيطها)

ولم تقف المشكلة عند هذا الحد، بل ازدادت تفاقما بسبب عدم لجوء الحكومة، إلى اعتماد الوسائل الإيجابية للتخلص من النفايات، والتي يلخصها الدكتور ملكي بثلاثة حلول، وهي:

– تشجيع سياسات إعادة الاستعمال والتدوير.

– تخفيف شراء المنتجات التي لن نستعملها، وإعادة الاستعمال.

– فرز النفايات من المصدر. وهي عملية مهمة جدا للتخفيف من أزمة النفايات وهذا يعتمد على سياسات يجب أن تقوم بها البلديات والحكومة، فيجب على الأقل فرز النفايات العضوية عن النفايات غير العضوية، وبمعنى آخر الرطبة عن النفايات غير الرطبة، أو النفايات التي تصدر رائحة عن التي لا رائحة لها.

وبالتالي فإن النفايات التي لا رائحة لها، تتولى أمرها البلدية حيث يتم فرزها وبيعها.أما النصف الثاني (العضوية) فيتم تسبيخها وتحويلها إلى مغذيات للتربة، وحسب طريقة التسبيخ يتم استعمالها إما في الأحراش أو في الإنتاج الزراعي.

ويضيف الدكتور ملكي، بأن الحل المتمثل بتوليد الطاقة من حرق النفايات، غير ممكن تطبيقه في لبنان وذلك للأسباب التالية:

لأن توليد الطاقة يحتاج إلى معدات وتقنيات متطورة، بالإضافة إلى الصيانة المكلفة جداً. ناهيك عن ذلك فإن الرماد الناتج عن حرق النفايات هو رماد ملوث وسام جداً، ونحن لا نملك القدرة على معالجته.

ولكن هذا لا يمنع توليد الطاقة من النفايات العضوية، ففي لبنان هناك مشاريع في العديد من المناطق، البزالية مثلا. حيث عملوا على توليد الطاقة من روث البقر، وقاموا بتسبيخه وإصدار غاز الميثان للتدفئة والطبخ. وكانت تجربة ناجحة جدا.

بين أزمة النفايات وأزمة الحراك

لم تكن هذه الأزمة الخطرة لتمر دون انتفاض مجموعة من الشباب الرافض للحالة المزرية التي وصل إليها الشعب اللبناني بفعل إهمال وفساد هذه السلطة التي لم تعد تجاوزاتها تقف عند حد. ورفضا لهذا الوضع المأساوي ارتفع صوت بعض الشباب الذي تمكن من كسر حاجز الخوف عند اللبنانين الذي يحمل نية التغيير، مؤكداً على امكانية قول “لا” لهذه السلطة المستبدة. وقد تجلى هذا الموقف الشعبي الرافض فيما اصطلح على تسميته بالحراك، الذي شكل بمظاهراته وتحركاته منعطفاً قوياً تميز به عن كل ما سبق من تحركات. فهو كان وليد نهضة الشباب دون الارتهان لأي جهة سياسية داخلية أو خارجية. مع العلم أنه تم اتهام بعض الاعضاء بالتواطؤ مع سفارات أجنبية وذلك بهدف تشويه صورتهم لدى الرأي العام. من جهة أخرى، فإن الأسلوب القمعي الذي اتبعته السلطة السياسية ووضع الحواجز بينها وبين المتظاهرين، برهن ضعفها وارتباكها في مواجهتهم؛ حيث واجهوها بالشعارات التي لم تستثني أحداً (كلن يعني كلن).

 وبالإضافة إلى ازمة النفايات، تم طرح مشاكل وأزمات أخرى اجتماعية واقتصادية وسياسية (مثل الغاء الطائفية السياسية واقرار سلسلة الرتب والرواتب والمطالبة بانتخاب رئيس للجمهورية).

وساهم حجم المشاركين، من مختلف فئات المجتمع وتنوع وجهاتهم، في الضغط على السلطة وجعلها تتراجع عن بعض القرارات، التي لم تراعِ الشروط البيئية الصحية وتكلف مبالغ طائلة وبالتالي فشلت الدولة في تمرير القرارات القائمة على المحاصصة والصفقات الفاسدة بسبب تناقض مصالح وجشع فئات من السلطة الحاكمة. إلا أن “الحراك” لم يستفد من هذه الحالة، فما كان للدولة إلا أن تعود إلى حل المطامر في بعض المناطق (الكوستابرافا، الناعمة، برج حمود) وفرضها بالضغط واستعمال أسلوب الترغيب والترهيب. وهكذا خفت، تدريجياً، صوت التظاهرات المركزية لتنتقل إلى المناطق التي تعاني من حل المطامر.

الأسباب التي أدت إلى فشل الحراك

لا شك بأن اصطفاف وتوحد كامل أطراف السلطة بوجه “الحراك الشعبي” ومحاربته، ساهم بإضعافه وتفككه. ونجحت السلطة في قمعه وتفريقه عبر الاعتقالات الكبيرة وتعرض المتظاهرين للأذى الجسدي من خراطيم المياه والمواجهة المباشرة مع القوى الأمنية.

من جهة أخرى، إن عدم قدرة الناس على المشاركة في التحركات التي تتطلب متابعة يومية، ساهمت بشكل كبير في التخفيف من زخم الشارع. إلى أن وصل إلى مرحلة الركود وتوقف التظاهرات المركزية، إذ لم يحقق انتصاراً كبيراً، فوزير البيئة لم يستقيل رغم المطالبة باستقالته، والقيادات الأمنية التي أمرت بإطلاق الرصاص المطاط والهراوات على المتظاهرين بشكلٍ هستيري لم تحاسب، وأزمة النفايات راوحت مكانها، رغم النجاح في منع صفقة فوز الشركات المدعومة من الزعامات الطائفية بمعالجة النفايات، والتي يُتوقع أن تعود هذه الازمة لاحقاً لأنه لم يوضع حل جذري يتوافق مع الشروط الصحية والبيئية.

إن حق المواطن في التظاهر والمطالبة بحقوقه قد شكل خطراً على الحكومة الفاسدة. فللمرة الأولى يدب الرعب في قلوب السياسيين الفاسدين، هذا الرعب الذي أصطحب معه الشعور بالخطر. الأمر الذي أدى إلى افلات زمام الأمور من قبضة السلطة التي بدت عاجزة أمام الغضب الشعبي وحشرها في خانة اليك. ففجّر ذلك الوحشية المختبئة وراء شعارات الديمقراطية والحرية اللذان تتغنى بهما هذه السلطة.

إن غضب الشارع اللبناني كشف عن الوجه الديكتاتوري لهذه الحكومة المختبئ وراء قناع الديمقراطية. فالأساليب الوحشية التي استعملت ضد الشعب ما كانت لتستعمل بوجه عدو! فوحشية السلطة في قمع المتظاهرين كان سبباً رئيسياً في زرع الخوف في قلوب المتظاهرين الأمر الذي أدى إلى سير الحراك نحو طريق الفشل.

بالإضافة إلى ذلك فإن عدوى الانقسام السياسي في البلد انتقلت وبسرعة إلى بعض قيادات الحراك الذين كانوا من الواضح أنهم يناضلون من أجل مصالحهم الشخصية فكانوا جد مخلصين للمثل القائل: ” كل يغني على ليلاه “.

إن نتيجة هذه السياسة التي اتبعها بعض ناشطي الحراك أوضحت افتقار القدرة على إدارته وعدم وجود تنسيق بالشكل المطلوب والكافي، بالإضافة إلى كثرة المطالب والشعارات التي لم تكن موحدة والتي أضاعت الهدف.

وبناءً على ذلك فإن الحكومة استغلت هذا التشتت والتفكك الواضحين أمام الرأي العام للإسراع بإفشال الحراك.

هذا التفكك الواضح كان مصحوبا بعدم القدرة على التفاعل لجذب عدد أكبر من المتظاهرين، وذهبت الأمور بالاتجاه المعاكس، الأمر الذي أدّى إلى تناقص عدد المتظاهرين أكثر فأكثر في كل مظاهرة. إلى أن خفت صوت الناس، وعلا صوت السلطة من جديد.

Share.

About Author

باسل عبدالله - مسؤول تحرير مجلة تواصل مدني

Comments are closed.