مجلة تواصل مدني – العدد 10- 9/2014- مقالة

0

مجلة تواصل مدني – العدد 10- عن شهر 9/2014- مقالة- فريد قمر

كي لا يكون التعليم مهنة الفاشلين – الصحافي فريد قمر

ما الذي تعنيه الإطاحة بسلسلة الرتب والرواتب؟ ما الذي تعنيه الإطاحة بالشهادة الرسمية تحت غطاء الإسفاف السياسي الذي يتعمد تجاهل المواطنين وحقوقهم إلى حد الإذلال؟

الأمر لا يتعلق بمجرد رواتب أو زيادة لموظف هنا وأستاذ هناك. والأمر لا تقتصر أبعاده على زيادة الفقير فقراً والمحتاج حاجة، وتكديس اليأس في نفس كل باحث عن لقمة عيش غير مغمّسة برشوة أو استزلام. بل هي كارثة تتعلق بمحو أي أمل للتغيير، والقضاء على أي إمكانية مستقبلية لردم الهوة بين الفقراء والأغنياء، وبين الممسكين بالسلطة والذين يحاولون إفلات رقابهم من سكين النظام وتركيبته المعقدة. قد يبدو في الأمر لغة شعبوية، أو حتى اجترار لنظرية المؤامرة التي لم يعد مهماً إن كانت حقيقة أم مجرد نظرية ما دمنا نعيش ما هو أسوأ منها. لكن فلننظر إلى الأمر في عمقه وفي نتائجه المستقبلية.

بعيداً عن كل الشعر الذي يُقال عن أن المعلم رسول، وعن قدسية رسالته، نجدنا أمام حالة واقعية لا فكاك منها: المعلم إنسان، يأكل ويشرب ويمرض، ويدفع فاتورة الكهرباء والاشتراك، ويذلّ لأصحاب الصهاريج، وينتظر دوره في طابور الميكانيك، وعليه  ذات أعباء أي مواطن عادي في بلد غير عادي. لذلك فعندما يحرم الأساتذة الثانويون والمعلمون من حقوقهم ستتحول مهنة التعليم إلى مهنة غير منتجة، إلى مهنة لا تسمح بأقل معايير العيش اللائق والكريم. وعندها سيصبح التعليم خلال سنوات مهنة الفاشلين، مهنة الذين لا يجدون أي مورد رزق آخر، مهنة العاطلين عن العمل. والأكفّاء منهم سيهجرون المدارس الرسمية والمدارس الخاصة متوسطة المستوى إلى المدارس البرجوازية القادرة على دفع رواتب مرتفعة تتناسب مع الأقساط الخيالية التي تفرضها على الطلاب.

لطالما شكلت الثانويات والمدارس الرسمية (ومعها المدارس الخاصة متوسطة التكلفة) الحل الوحيد أمام تشكيل حراك اجتماعي في لبنان. فلا يحلمنَّ أحد بالانتقال من طبقة إلى أخرى من دون رافعة التعليم التي تشكل الأمل الوحيد في منح فرصة متساوية بين الأغنياء والفقراء. ومع إعدام هذه الفرصة يكمن إعدام البلد. لا سيما أن المدارس الخاصة التابعة للمؤسسات الدينية والإرساليات باتت في عداد المؤسسات التربوية التي لا طاقة للفقراء على احتمال أقساطها لا سيما بعد أن تخلت عن دورها التاريخي واكتشفت أن البرجوازية تليق بها أكثر. وما الضير في إقطاع جديد ما دمنا قادرين على تحقيقه؟

والكارثة ذاتها تنطبق على مؤسسات الدولة، حيث سيفرض على كل موظف أن يكون مرتشياً حتى يعيش، وفاسداً حتى يُعلّم أطفاله، وتابعاً حتى العبودية لمن وظفه ليؤمن له الحماية من كل ما سيجبر على ارتكابه، وبعضهم غارق به إلى حد الثمالة.

إنها معركة وجودية في لبنان، إنها معركة للدفاع عن الحد الأدنى من أمل في بلد ينازع للبقاء. من بلد استطاعت السلطة السياسية فيه أن تُحمِّل عجزها إلى طرف آخر، وأن تقنع الكثيرين بأن الصراخ الذي يسمعونه من الأساتذة والموظفين هو المشكلة وليست في من يُطبق على أعناقهم ويدفعهم للصراخ.

عندما قررت الحكومة اللبنانية أن توافق على إعطاء الإفادات، كانت تقول للمواطنين أن الخطوط الحمراء كلها سقطت. وأن الحافة الفاصلة بين الوطن والهاوية أزيلت إلى غير رجعة. لا شيء يمكنه وقف الانهيار، لا مصلحة الطلاب، ولا الرأي العام ولا حتى القضاء. لم تكن الإفادات نهاية أزمة، ولا مجرّد حلّ موقت لمشكلة عقيمة، بل كانت إعلاناً لكل المواطنين: لا شيء سيردنا عن التحكم في رقابكم، لا خجل بعد اليوم من إذلالكم، ما دمتم وصلتم إلى القعر وهاكم تعتادون عليه.

Share.

About Author

باسل عبدالله - مسؤول تحرير مجلة تواصل مدني

Comments are closed.