فيروز – عن الشمس التي تُشرِقُ كلّ صباحٍ .. ولا تغيب

0

تحقيق علي الحمود وأديب محفوض

فيروز .. إسم من خمسة أحرف، عَجن من رماد الحروب وطناً، صبغته بلون السلام، وراحت ترفعه كلما غنّت إلى حيث تتشكل النجوم وتتخذ من السخام الكوني مكاناً وهّاجاً.

إنه صوت فيروز، يحملنا معه حُلُماً أينما غنّى، ونحمله معنا وطناً أينما حلّ بنا الترحال. هو خاصةُ هويتنا الأولى حين ضاعت الهوية في زحمة الإنتماءات، فلا نحتاج أوراقاً ثبوتيّة لنؤكّد انتماءنا إليه، بل يكفي أن يخترق صوتها الآذان، ويلامس أحاسيسنا، ويسكن بين طيّات الحنين، لنصبح من الفيروزيين.

من لبنان .. سفيرةً إلى النجوم

لو علمَت بيروت بأن يوم 21 تشرين الثاني 1935 سيشهد ولادة “نهاد حدّاد”، تلك التي ستطوّب إسم المدينة لاحقاً عروساً على مُدُن العالم، في أغنية أصبحت نشيداً وطنياً ثانياً. لو أدركت ذلك لما خاضت غمار حروبٍ جعلت منها مدينة متعبة لا تحمل من المجد سوى اسمه.

كانت فيروز الشمعة الأولى لعائلة بسيطة تعيش في زقاق البلاط – الحي القديم لمدينة بيروت-  في غرفة واحدة مع أمها ليزا البستاني وأبوها رزق وديع حدّاد الذي كان يعمل في مطبعة جريدة  “لوريون لو جور” اللبنانيّة التي لا زالت تصدر إلى يومنا هذا باللغة الفرنسية. كانت موهبتها بارزة منذ طفولتها، حيث حققت شهرة في مدرستها بداية الأمر. أحبت الراديو كثيراً لكنها لم تستطع اقتناء واحد بسبب وضع العائلة الاقتصادي، فكانت تقضي معظم وقتها تستمع إلى صوته الآتي من بيت جارها الذي كان يمتعض من صوتها وهي تغني طوال الوقت.

إكتشفها الأخوين فليفل (اللذان لّحنا النشيد الوطني اللبناني)، ودعوها إلى الإلتحاق بالمعهد الموسيقي اللبناني حيث تعلّمت الغناء والنوتة، فانضمت إلى فرقة فليفل. وقفت نهاد حدّاد أمام لجنة الإستماع في الإذاعة اللبنانية وهي في الخامسة عشر من عمرها، وكان ذلك في العام 1950 عندما جائت إلى دار الإذاعة في حي الصنائع في بيروت، قادمة سيراً على الأقدام من منزلها القريب. فقبلت وعملت في كورس الإذاعة.

مع حليم الرومي .. إنها فيروز!

منذ لحظة قبولها في الإذاعة اللبنانية، رافقها حليم الرومي الذي كان أستاذاً في الموسيقى، وأعجب بصوتها كثيراً، فقدم لها أول  لحن إسمه : “تركت قلبي”، واقترح أن يكون اسمها “فيروز”، هذا الإسم الذي كان مجرد إقتراح أصبح اليوم سيد الصباحات، والملاذ الأخير، ومفتاح الحنين إلى زمن جميل، وأنيس الغرباء، ورمزاً للفن الراقي والجميل، وصوتاً يحمل ذكريات فرح وألم… ثورات وقضايا… مدن وشعوب… رائحة بحر بيروت وياسمين الشام… محبة وسلام!

تعهّد الرومي فيروز لِما رآه في موهبتها وقوة صوتها. وخلال شهرين من التحاقها بكورس الإذاعة، أتبع اللحن الأول بأغنية “في جو سحر الجمال” ثم بمحاورة “عاشق الورد” التي غناها معها، بعدها صدرت أولى ألبوماتها عام 1952 من ألحانه مع شركة بيضافون والذي احتوى أغنيتين : الأولى “يا حمام” والثانية “أحبك مهما أشوف منك”.

في نهاية الأربعينيات كان عاصي ومنصور الرحباني قد بدآ المشاركة جزئياً في إذاعة لبنان خارج دوام عملهما كشرطيين. ثم تفرغ عاصي للعمل في الإذاعة عام 1949، ثم تبعه منصور عام 1953.

اللقاء الأول… أنا لحبيبي وحبيبي إلي!

يقول جلال الدين الرومي : “من دون الحب… كل الموسيقى ضجيج”، ومن دون اللقاء بين عاصي وفيروز… كانت كل الصباحات فارغة ولا معنى لرائحة القهوة التي لا تدخل جسد إنسان إلا عندما تستأذن صوت فيروز وتصطحبه معها، فتفوح في مكنونات النفس رائحة الطمأنينة والسلام.

من دون اللقاء بين عاصي وفيروز… ماذا كان سيفعل الموظف بصباحه الروتيني؟ كيف سيتوائم قلبان مُتخاصمان؟ وكيف كانت ستتحمل الشعوب طغاتها؟ وماذا سيغني العشاق في لحظات تجلي الحب؟

من دون اللقاء بين عاصي وفيروز… سنكون كعصفورة الشجن، بلا وطن! ستنتهي قصص الحب في الأمس دون أمل في الصباح! سيطول الحزن بين العشّاق وسيبقى سنوات وسنوات! ستكتب جميع قصص الحب على الرمال! سوف يذبل الياسمين في الشام بغياب صوتها، وتسقط النجوم من ليالي بغداد، وتختفي رائحة بحر بيروت، وتتوقف القدس عن الصلاة.

من دون اللقاء بين عاصي وفيروز… لن يصبح لرائحة دم الشهداء عطر البيلسان، ولن تبقى فلسطين صامدة إلى الآن!

هكذا ولأجل كل هؤلاء كان اللقاء الأول بين فيروز وعاصي في العام 1952، حين طلب حليم الرومي من عاصي الذي كان عازفاً في فرقة الإذاعة أن يلحن بعض الأغنيات الحديثة لفيروز التي كانت في الثامنة عشر من عمرها. وبعد خمس أغنيات من ألحان عاصي، تألّف الثنائي الأخوان الرحباني إسوة بالأخوين فليفل مع فيروز، وثابر الثلاثة في علاقة مثمرة امتدت حتى السبعينات.

على نفس الوتيرة التي كانت تنمو فيها علاقة عاصي وفيروز الفنية، كانت علاقتهما الشخصية تنمو بالتوازي وبالوتيرة نفسها إلى أن تزوّجا في السادس عشر من كانون الثاني من العام 1955.

كان “عتاب” الألبوم الذي أطلق فيروز كمطربة في الساحة الفنية، والذي حقق نجاحاً كبيراً في لبنان والعالم العربي. وكان واضحاً تأثر موسيقى عاصي في هذا الألبوم بأسلوب سيد درويش وعبد الوهاب والذي بقي غالباً لبضع سنوات في أعمال الرحباني حتى عام 1957 على الأقل.

في المرحلة الممتدة بين 1957 و1974 قدّم الأخوان الرحباني مع فيروز والفرقة الشعبية اللبنانية أعمالاً حققت نهضة غنائية موسيقية عارمة في بيروت استمرت أصداؤها إلى اليوم. في تلك السنوات المبكرة لم يحظ الرحابنة وفيروز بشهرة في لبنان. حتى أنّ استطلاعاً للرأي عن رغبات المستمعين نُشر عام 1951 بيّن أن الأغنية المصرية كانت أكثر إنتشاراً وشعبية في لبنان. وقد يعود سبب هذا الغياب إلى محاولات الرحابنة سلوك منهج موسيقي لبناني مستقل بدا غريباً لمزاج الجمهور في تلك الفترة.

من خلال عملهما في إذاعة لبنان، تعرّف عاصي ومنصور إلى مسؤولين في محطة الشرق الأدنى، وفيها تعاونا مع أسماء لامعة في لبنان مثل توفيق الباشا وصبري الشريف وزكي ناصيف وتوفيق سكر. وفي تلك الإذاعة قدمت فيروز أول أغنية لها من تأليف وتوزيع الأخوين الرحباني.

وخلال سنوات قليلة بات نجاح الأخوين الرحباني وفيروز مبهراً، وأصبحوا مستقلين عن مهرجانات بعلبك، فذهبت أعمالهم إلى مهرجان الأرز، ومهرجان دمشق الدولي والقاهرة وتونس والجزائر وباريس ولندن والولايات المتحدة وكندا واميركا اللاتينية.

إنطلق الرحابنة من أعمال الأوبريت المسرحية إلى تجارب سينمائية ناجحة ولكنها قليلة. فقدّموا فيلم سفربرلك (عن قصّة الرغيف للكاتب توفيق يوسف عوّاد)  وبنت الحارس الذي أطلق عدداً من أغاني فيروز للأطفال، وفيلم بياع الخواتم الذي اخرجه المخرج المصري يوسف شاهين.

وهكذا خلال فترة تقارب الخمس عشر سنة تقريباً، قدّم الرحابنة أعمالاً وضعت بيروت في مصاف العاصمة الفنية العربية. وأصبحت عنوان لأصحاب المواهب في لبنان ودول الجوار الذين لم يعودوا مضطرين للذهاب إلى القاهرة.

ذاع صيت فيروز في العالم العربي وفي العالم أجمع وانتشرت أعمالها، فوقفت على أهم المسارح في العالم كالأولمبيا في باريس، ومسرح البيكاديللي، ومهرجانات بعلبك، ومهرجانات دمشق الدولية…إلخ.  كما قلّدت أعمالها بلغات أخرى، كأغنية “حبيتك بالصيف” التي ظهرت بإسم “كوبابل”، كما أعيد توزيع نفس الأغنية في فيلم “شاب” الجزائري (لرشيد بوجدرة)، واقتبست الفنانة الأمريكية مادونا من أعمال الجمعة العظيمة لفيروز، وقام موسيقيون وقادة أوركسترا غربيون، مثل كلود سياري وفرنك بورسيل بعزف أغاني فيروز في ألبومات كاملة.

أول مرة ما منكون سوا!

ثمانية وعشرون عاماً من العطاء، للحب، للوطن، للثورات، للشعوب، للقضية الفلسطينية ، للمدن التي كان لها نصيب كبير من هذا الحب… إنتهى اللقاء بين عاصي وفيروز إثر افتراقهما في العام 1980، وكان الوداع الأخير في العام 1986، العام الذي توفي فيه عاصي تاركاً للملايين أرشيفاً ضخماً من ثمرة هذا اللقاء وفرصة ولادة فيروز جديدة، بلون جديد ونكهة شبابية، جعلت منها مطربة كل الأذواق وكل الاعمار بما قدمته مع الأخوين الرحباني وزياد وزكي ناصيف وفيليمون وهبي …

يعتبر عام 1990 مفصلاً مُهماْ في مسيرة فيروز الفنية، فقد تولّى إبنها زياد الرحباني إدارة أعمالها وتلحين وتوزيع أغانيها، بأسلوب مميز وجديد لم يخلو من النكهة الرحبانية السابقة. وكان أول تعاون بين زياد وفيروز موسيقياً فقط عبر أغنية “سألوني الناس” التي كتبها منصور الرحباني بعد أن أصيب عاصي بنزيف في رأسه، ولم يكن حاضراً أثناء البروفات والعروض في مسرحية “المحطة”، وهو ما لم يحصل سابقاً، فقد كان معتاداً على التواجد في كل الحفلات والمسرحيات وخاصة أنه  كان مفتوناً بالتفاصيل.

أصدر زياد عام 1991 أول ألبوم كامل من كتابته وألحانه بعنوان “كيفك أنت” وقد أحدث هذا الألبوم وخاصة أغنية “كيفك أنت” ضجة كبيرة في الوسط الفني والشعبي، إذ اعتبر الجهمور الذي اعتاد على البنت الفلكلورية أن هذا العمل غير مقبول وأن هذا التحول لا يليق بفيروز الرحابنة. في المقابل، فقد أجرت شركة إحصائيات استطلاعاً عن هذا الألبوم في ذلك الوقت وكانت اسطوانة “كيفك أنت” الأكثر مبيعاً،  والتي ما زالت الأغنية عنوانها إلى اليوم من أفضل أغاني السيدة فيروز ومن أكثرها ترديداً في المقاهي وسيارات التاكسي.

توالت بعد ذلك إصدارات زياد لفيروز، حتى بلغ ما أنتجه لها عشر ألبومات منهم: “إلى عاصي”، “وحدن”، “مش كاين هيك تكون”…إلخ ، آخرها “إيه… في أمل” عام 2010 والذي ما زال في قائمة الألبومات العشر الأوائل إلى الآن.

لا يمكن نفي دور زياد الرحباني وذكائه في تعريف جيل الشباب على فيروز من خلال كلماته التي تندرج تحت شعار “السهل الممتنع” والمنبثقة من لغة الشعب ويومياته، وألحانه العبقرية التي ترجمت ضجيج بيروت وغضبها، فأخرج لنا أرشيفاً فيروزياً جديداً  جانسه صوت فيروز الأسطوري.

من إحدى حفلات فيروز

 

قمر مشغرة… تغني زكي ناصيف

فيروز التي استحوذت على قلوبنا وأحاسيسنا بكل ما قدّمته مع عاصي ومنصور وزياد والكثيرين غيرهم، ارتفعت في وجداننا الى مستوى الأسطورة ، فبتنا نهواها بكل أمل وحب، وكيف لا ولولا صوتها لأصبحنا وأصبحت صباحاتنا ومدننا وأوطاننا بلا روح .

عام 1994 أهدى زكي ناصيف العالم بعضاً من روائعه عبر فيروز التي جعلت من هذا الألبوم شجرة تحمل أغانٍ ثكاثفت فيها موسيقى الكون عبر صوتها، فكان ألبوم “فيروز تغني زكي ناصيف” من إنتاج صوت المشرق، من أجمل ما غنت فيروز خلال مسيرتها الفنية.

بعض أغاني هذا الألبوم: “أهواك بلا أمل”، “بناديلك يا حبيبي”، “ع دروب الهوى”، “أناجيك في سري”…إلخ.

ببالنا…

لن يشهد الفن العربي بشكل عام واللبناني بشكل خاص عظمة فنية وصوتاً أسطورياً كفيروز. فهي مع الأخوين الرحباني وابنها زياد والكثيرين من المبدعين، قدموا أكثر من تسعة وتسعين ألبوماً، ثلاثة أفلام سينمائية وواحد وعشرون مسرحية غنائية منها:

“تقاليد وعادات” عام 1957، “الليل والقنديل” عام 1963 ، “صح النوم” عام 1971، “ميس الريم” عام 1975، “بترا” عام 1977.

في أمل… إيه في أمل…

Share.

About Author

باسل عبدالله - مسؤول تحرير مجلة تواصل مدني

Comments are closed.