العلمانية الشاملة

  1. تحديد العلمانية:

 

العلمانية[1] هي نظرة شاملة للعالم (المجتمع والإنسان والفكر) تؤكد استقلالية العالم بكل مقوماته وأبعاده وقيمه وسلوكيته تجاه جميع المذاهب الدينية أو اللادينية والفلسفات على أنواعها، نظرة تتطلب الممارسة الفعلية ولا تكتفي بالأفكار التجريدية المحض. والاستقلالية تعني أن للعالم قيمة ذاتية فعلية.

 

وإذا كانت للعلمانية أشكال تاريخية مختلفة فبالإمكان ارجاعها في صورة رئيسية الى ثلاثة هي:

  • العلمانية الملحدة، المعادية للدين.
  • العلمانية المنسجمة مع الدين.
  • العلمانية الحيادية تجاه الدين.

 

والعلمانية التي وقع إختيار تيار المجتمع المدني عليها هي العلمانية الحيادية ذات الحياد الإيجابي والإحترام الكامل تجاه كل الأديان والتيارات الأخرى. إن هذه العلمانية هي عنصر أساسي من عناصر إقامة  مجتمع لبناني تسوده الوحدة والمساواة والعدالة والحرية والسلام والديمقراطية. إنها الطريق الأصلح لنشوء وطن يملك قاعدة قانونية واحدة موحدة إستناداً الى المساواة والحرية وشرعة حقوق الإنسان.

 

  1. أبعاد العلمانية الشاملة:

 

هذا التحديد يوضح معنى العلمانية الشاملة، وليس وجهاً واحداً من أوجهها فقط، كما يحدث عادةً. فالعلمانية الشاملة تنظر الى العالم بكل مقوماته وقيمه لتؤكد أن كلاً منها له استقلاليته وقيمته في ذاته. وللإحاطة بها بكل جوانبها، يجب تفصيل كل جوانب العالم، وهذا أمر واسع جداً. لقد تم الإختيار في هذا المجال ما يهم لبنان في مرحلته التاريخية الراهنة، بعد تحليل معمق لتكوينه الذي تغلغلت فيه وهيمنت عليه الطائفية، مع التوقف بشكل خاص عند علمنة السياسة والمجتمع والوظيفة والقوانين والهوية الشخصية والمؤسسات والقيم الإنسانية.

 

هذه “العلمانيات” المقصودة متلازمة متكاملة وأساسها واحد، هو المساواة بين أبناء الشعب الواحد مساواة مباشرة تجاه القانون، دون أي وسيط مدني أو ديني، فردي أو جماعي. وهذا ما يوافق مع “المواطنية” التي تجعل من كل فرد مواطناً عليه واجبات وله حقوق يحددها القانون المدني، لا الإنتماء الديني أو المذهبي أو الطائفي.

 

وفي ما يلي، على سبيل المثال لا الحصر، بعض التفاصيل لهذه العلمانيات المتعددة.

 

  • العلمانية الشخصية: هي استقلالية الشخص، أو المواطن عن انتمائه الطائفي ضمن المجتمع، وعن ضرورة انتمائه الديني، وتعني:

 

  • احترام كل شخص بحد ذاته، واعتبار قيمته مساوية لقيمة أي شخص آخر، أياً كان معتقده.
  • عدم تصنيفه، منذ ولادته، طائفياً، وعدم ذكر الطائفة أو المذهب في سجلات النفوس.
  • انتماء الشخص مباشرة الى الوطن، لا الى التجمعات الطائفية.

 

  • العلمانية السياسية: هي استقلالية السياسة عن الدين، واستقلالية الممارسة السياسية عن الانتماء الديني والطائفي، واستقلالية الدولة عن الدين والدين عن الدولة وتعني:

 

  • استقلالية الترشح لأي منصب سياسي عن انتماء المرشح الديني.
  • استقلالية الفائز بأي منصب سياسي عن طائفته، فهو لا يمثلها ولا يدعمها ولا تدعمه على الأساس الطائفي.
  • استقلالية رئاسة الدولة، أو أي رئاسة أخرى، عن أي دين كان.
  • استقلالية الممارسة السياسية عن تدخل الرؤساء الدينيين، الذين يحق لهم الممارسة السياسية كغيرهم من المواطنين، لا كممثلين عن طوائفهم.

 

  • العلمانية الوظيفية: هي استقلالية الوظيفة الحكومية أو المذهبية عن الانتماء الطائفي، وتعني:
  • عدم ربط أي وظيفة بأي طائفة.
  • عدم تخصيص كل طائفة بعدد من الوظائف نسبة الى عدد أبنائها.
  • عدم محاباة الموظفين في خدمتهم لمن هم من طائفتهم بل خدمة الجميع بالتساوي.

 

  • العلمانية المجتمعية: هي بالمعنى الحصري استقلالية المجتمع المدني، بأفراده وتجمعاته، عن المجتمع الديني والعكس بالعكس، وتعني:

 

  • عدم تدخل التجمعات الدينية، أي الطوائف، في التأليف الوطني، لا بشكل قانوني – فدرالية الطوائف مثلاً – ولا بشكل واقعي عفوي.
  • عدم اعتبار أي دين أو طائفة، دين الدولة أو طائفتها وعدم إعتبار أن لهما أو لمعتنقيهما امتيازات من دون غيرهم.
  • عدم تداخل الواجبات الاجتماعية الرسمية بالواجبات الدينية الطائفية كاشتراك الرسميين في الشعائر والمعايدات الدينية.

 

  • العلمانية المؤسسية: هي استقلالية المؤسسات التربوية والصحية والاجتماعية الأخرى عن الطوائف ومجالسها وسلطاتها، وتعني:

 

  • انتفاء الصفة الطائفية عن مثل هذه المؤسسات ان في اسمها أو لجانها أو شروط الإفادة منها أو برامجها.
  • دعم المؤسسات الحكومية والشعبية اللاطائفية.
  • فصل التربية الدينية عن المؤسسات التربوية الرسمية (على أن تؤمنها المؤسسات الدينية في إطارها الداخلي). والاستعاضة عنها للتلاميذ والطلاب بالثقافة العامة حول التيارات الدينية واللادينية، وبالتربية الاخلاقية والوطنية والمدنية والاجتماعية الموحدة.

 

  • العلمانية القانونية: هي استقلالية قوانين البلاد عن الشرائع الدينية، دون التناقض مع ما تعتبره الأديان جوهرياً في هذه الشرائع، وتعني:

 

  • وضع قوانين البلاد من قبل المشترع المدني، باسم الشعب، لا باسم الدين أو الله، حتى لو كانت بعض النصوص واردة في الكتب الدينية.
  • إلغاء كل المواد الطائفية في الدستور والقوانين والعرف والمواثيق المكتوبة أو غير المكتوبة، لا سيما الانتخاب والجيش …
  • استحداث قانون مدني واحد للأحوال الشخصية، يلحظ بعض البنود الاختيارية احتراماً لمعتقدات المؤمنين وغير المؤمنين.
  • إنشاء محاكم مدنية للأحوال الشخصية مكلفة تطبيق القانون المدني مع بنوده الاختيارية.

 

  • العلمانية القيمية أو الثقافية: هي استقلالية القيم الإنسانية كالحرية والعدالة والمساواة والديمقراطية والسلام، واستقلالية الاخلاقيات كافة عن المصادر الدينية أو اللادينية، وتعني:

 

  • إعتبارها قيماً إنسانية بحد ذاتها، أياً كان مصدرها التاريخي.
  • جعلها تتفاعل لأجل خير الإنسان، كل إنسان وكل الإنسان.

 

  • التلازم والتكامل بين العلمانيات: لا شك أن ذكر هذه التفاصيل حول العلمانيات المتعددة يظهر أنها متلازمة متكاملة.

 

  • فالعلمانية الشخصية هي أساس لباقي العلمانيات، لأنه إذا اعتبر الشخص قيمة بحد ذاته، ومساوياً لباقي أفراد المجتمع، كل ما في المجتمع يتأثر بذلك.
  • والعلمانية المجتمعية تتجاوز معناها الحصري الذي ذكرناه لتشمل العلمانية المؤسسية والقانونية والسياسية والوظيفية.
  • وكل هذه العلمانيات تُكوِّن العلمانية الثقافية أو القيمية.

 

  1. نتائج العلمانية الشاملة:

 

يتوخى تيار المجتمع المدني إذا تحققت أبعاد العلمانية الشاملة المختلفة والمتكاملة أن يصل لبنان الى نتائج متقدمة جداً على الصعيد الوطني والقومي والحزبي والاجتماعي والاقتصادي والسياسي والديني.

 

  • على الصعيد الوطني:

 

  • تتوافر العناصر اللازمة ليحل الانتماء الوطني بدلاً من الانتماء الطائفي.
  • تتوثق عرى الوحدة الوطنية الشعبية الفعلية لا “الشعارية” ويتم تجاوز العناصر الطائفية في “الميثاق الوطني” ليصبح هذا الميثاق وطنياً استقلالياً، لا طائفياً.
  • تتوسع السيادة الوطنية إذ تسترجع الدولة صلاحيات كانت قد تنازلت عنها للطوائف أو أخذتها الطوائف قديماً أو حديثاً، فلا تبقى “دويلات” ضمن الدولة.
  • تنفي عن الوطن أي صفة دينية أو طائفية، فلا يعتبر مسيحياً أو مسلماً، إذا كان رئيسه مسيحياً أو مسلماً، أو كانت أكثرية مواطنيه مسلمة أو مسيحية.
  • يصبح الجيش متماسكاً لا خطر على انقسامه بسبب التجاذب الطائفي لعناصره، ولا خطر على تعطيله بسبب الخوف الدائم من انقسامه، ومن ثم يصبح قوياً قادراً أن يقوم بدوره في الدفاع والاسهام في بناء البلاد.

 

  • على الصعيد القومي:

 

  • تزول أو على الأقل تتضاءل حدة الصراع القومي اللاعقلانية، بين الذين يريدون تحديد هوية لبنان القومية، إذا كانت فينيقية أو عربية أو لبنانية أو سورية.
  • يزول عن اللبنانية صفة الانعزالية والجمود، ومركب النقص تجاه العروبة والعرب ويصبح للبنان دور رائد على صعيد القومية العربية العلمانية، التي لم تتجسد بعد في أي بلد عربي.
  • يزول الخلط بين لبنان اللبناني والمسيحية وبين لبنان العربي والاسلام.

 

  • على صعيد الأحزاب:

 

  • تتخلص الأحزاب اليمينية واليسارية، حتى التي تطرح شعار العلمانية منذ زمن بعيد- من الطائفية التي دخلتها عن وعي أو دون وعي.
  • تقوّيها داخلياً، وتجعلها أكثر جاذبية لا سيما لدى الذين يريدون بناء دولة حديثة.
  • تقوّيها في عملها السياسي ولا سيما إذا تعدل قانون الإنتخابات وقدمت الأحزاب مرشحيها دون اعتبارات طائفية.

 

  • على الصعيد الاجتماعي والاقتصادي والسياسي:

 

  • تساعد العلمانية الشاملة على إقامة العدالة الاجتماعية الفعلية للجميع، تجعل الأولية للمناطق والمجتمعات والقطاعات الأكثر حرماناً وتخلفاً وضعفاً لا للحسابات الطائفية المنغلقة.
  • تعطي أو ترجع الحقوق الى جميع المواطنين دون أي تفرقة.
  • تساعد على ممارسة الحرية الفعلية، لا الفوضى أو “التسامحية” المتخاذلة بسبب الإعتبارات الطائفية، وعلى ممارسة الحرية من قبل المواطنين جميعهم لا من قبل الطوائف، وممثليها السياسيين أو الدينيين فقط.
  • تسهم في تأصيل الديمقراطية الصحية والمشاركة الكاملة في المسؤولية السياسية، بدلاً من الإتكال على “الممثلين” الطائفيين.
  • تزول الإزدواجية التصارعية بين أهل الحكم التي تعطل في أكثر الأحيان كل إمكانية حكم قوي وعادل.
  • تحرر البلاد من استغلال الحاكم الذي يستفيد من انتمائه الطائفي وما يعرفه من الحساسيات المعهودة ليعمل وفق هواه ومصلحته.
  • تسهل محاكمة الحكام دون الخوف من التفاعلات السلبية.
  • تساعد على توضيح الصراعات الطبقية وعلى إزالة تغطيتها الطائفية وعلى اكتشاف البنيات والقوانين الاقتصادية والاجتماعية الواجب تعديلها لخدمة الأكثرية المسحوقة، وعلى العمل لأجل تغييرها دون الخوف من إثارة انعكاسات طائفية كاذبة أو ظالمة…

 

  • على الصعيد الديني:

 

  • تساعد العلمانية الشاملة على التمييز بين الإيمان والحياة الإيمانية من جهة، وعناصر الدين المجتمعية من جهة أخرى، أي المجتمع الديني أو الطائفة والسلطة والمؤسسات الدينية الطائفية، فتتيح للمؤمنين وغير المؤمنين الاختيار الحر لمعتقدهم دون سيطرة السلطة الدينية أو المجتمع الطائفي.
  • تساعد على تحرير الدين من تورطات تشويهية وتحالفات مشبوهة تستعمله لأغراض بعيدة عن جوهره وأهدافه.
  • تساعد على تحرير الدين من التصورات الخاطئة عن الله التي تبثها بعض المجتمعات الطائفية لاستمراريتها وتبرير السلطة فيها، وتنزيهها عن أي انتقاد، ومنها التصورات التي تجعل من الله القوة والنصر لفئة المؤمنين به ضد أعدائهم، القائل بالعنف، بل المحرض عليه ضد الذين ليسوا من معسكره …

 

  • على صعيد الطوائف ذاتها:

 

  • تساعد العلمانية الشاملة على تحرير المسيحيين”السوسيولجيين” من عقدة الخوف والضمانات، وتحرير المسلمين من عقدة الظلم والغبن.
  • تحرر الفئتين من الحذر المتبادل والتسلح، وتوازن الرعب، والميليشيات.
  • تحرر الطوائف المسيحية من التطلع الدائم نحو الغرب والاتكال عليه والمسلمين من التطلع الدائم الى الشرق الإسلامي والاتكال عليه.
  • تحرر الطوائف من الطائفية، أي تحرر جماعة المؤمنين، أو المتدينين أو المنتسبين اسمياً الى طائفة، ويهمهم إبقاء هذا الإنتماء الحضاري أو التراثي من الإنحراف والمرض اللذين يصيبان طائفتهم…

 

  1. مخطط لتحقيق العلمانية الشاملة:

 

يعي تيار  المجتمع المدني بالوقت ذاته:

 

  • أن تحقيق العلمانية الشاملة، أو “علمنة ” لبنان الشاملة هو الآن أصعب من أي وقت مضى.
  • أن بناء المجتمع اللبناني السليم القوي والعصري مستحيل دون العلمانية الشاملة.
  • أن صعوبة تحقيق العلمانية الشاملة من جهة أو استحالة الاستغناء عنها من جهة أخرى مفارقة تطرح التحدي الأكبر على اللبنانيين.
  • أنه لا بد من مخطط واضح يفصل المراحل العاجلة والآجلة للعلمانية الممكنة حالياً وفي ما بعد، ويفصل الوسائل الكفيلة بتحقيقها.
  • أنه لا بد من تجمع كل المؤمنين بالعلمانية معاً لتحقيق هذا المخطط في سبيل العمل على الغاء الطائفية من النصوص، مما يساعد على إلغائها من النفوس والعكس صحيح أيضاً.

 

  • توضيح المفاهيم وتعميمها:

 

أول نقطة في المخطط يجب أن تكون توضيح مفهوم “العلمانية الشاملة” مع كل أوجهها المتكاملة، بكل وسائل الإعلام الممكنة. وبالوقت ذاته يجب نقد كل المفاهيم الخاطئة أو الجزئية، التي يمكن أن تطلق عن ضلال أو عن إرادة تضليل وضرب للعلمانية الصحيحة.

 


  • تنظيم المقتنعين بالعلمانية:

 

والنقطة الثانية في المخطط تقتضي تجميع كل المقتنعين بالعلمانية الشاملة، أو أحد أوجهها، وتنظيمهم في جبهة عريضة، ضمن “المؤتمر العام الدائم للعلمانيين في لبنان”، الإطار الذي يجب أن يستوعب كافة التيارات العلمانية، والسعي لتوحيد مفاهيمهم توحيداً تاماً، أو لجعلهم يقبلون بالإختلافات الباقية بينهم بطريقة واضحة، والإتفاق مع جميع المنتمين الى هذا “المؤتمر العام الدائم” على الخطوات الممكن والواجب القيام بها معاً، ودعوة جميع اللبنانيين للحوار حول العلمانية ولتبنيها شيئاً فشيئاً.

 

  • تجزئة العلمنة الى مراحل متداخلة ومتعاقبة:

 

والنقطة الثالثة هي وضع تفصيل المخطط، مع مراحل تنفيذه المتزامنة المتداخلة، أو المتعاقبة، ووسائل تحقيق كل مرحلة. وهذا يقتضي القيام بدراسات وافية لكل نقطة وتنظيم ملفات علمية قادرة على الإجابة على كل الإعتراضات والإنتقادات. كما يقتضي برنامج زمني لهذه المراحل تبدأ “بالعلمنة” الأسهل والأسرع تحقيقاً، وبالوقت ذاته تعد الوسائل “للعلمنات” الأخرى التي تبدو أصعب وتتطلب وقتاً أطول للتحقيق.

 

[1]  العلمانية بفتح العين نسبة الى «العالم» أو «العلم» المرادف «للعالم».